النهار

لا نسمع عن هذه الخدمة كثيراً في لبنان... العناية التلطيفية تُحدث فرقاً في حياة المرضى وعائلاتهم
المصدر: النهار
لا نسمع عن هذه الخدمة كثيراً في لبنان... العناية التلطيفية تُحدث فرقاً في حياة المرضى وعائلاتهم
العناية التلطيفية
A+   A-

من المعتقدات الخاطئة التي رافقت العناية التلطيفية هي أنها خاصة للأشخاص الذين هم في المرحلة الأخيرة من حياتهم أو الذين يُحتضرون. لكن هذه ليست الحقيقة، فهذا العلاج ليس فقط لهذه الفئة تحديداً، وإنما لكل مريض يعاني من مرض مزمن يؤثر على نوعية حياته.

 

استناداً إلى إحصاءات المركز الطبي في الجامعة الأميركية منذ بداية البرنامج وحتى الآن، نشهد ارتفاعاً متزايداً في عدد الاستشارات خلال السنوات العشر الأخيرة، التي تجاوزت الـ 500 معاينة في العام الواحد. وتجدر الإشارة إلى أن 45 في المئة من الحالات كانت لمرضى السرطان، فيما البقية هي لمرضى يعانون من أمراض خطيرة أخرى.

 

العنوان العريض لهذه العناية التلطيفية يتمثل بتخفيف الألم والتأقلم مع المرض، ونحن لا نتحدث عن المريض فقط، وإنما أيضاً عائلته أو مقدم الرعاية الذي يرافقه في مساره العلاجي. صحيح أن هذه الخدمة الطبية ما زالت غير معروفة بالنسبة لكثيرين، ولم يسمعوا بها من قبل، إلا أن ما يمكن أن تحققه يستدعي زيادة التثقيف والتوعية حول أهميتها، وإزالة كل لغط حاصل حولها.

 

قد يتبادر إلى أذهاننا عند سماع عبارة "العناية التلطيفية" أنها المحطة الأخيرة قبل الموت. لكن في الواقع هي ليست كذلك دائماً ولا تشمل مرضى السرطان فقط، والأهم هي لا تعكس منطق "فقدان الأمل" من الحالة الطبية.

 

يُشاركنا إيلي شاكر تجربته مع العناية التلطيفية بعد معاودة السرطان عند والدته، يقول لـ"النهار": "لم أسمع بهذه الخدمة الصحية من قبل، لكننا كنا أمام خيارين، كما شرح لنا طبيبها المتابع، إما أن تخضع للعلاج الكيميائي والذي سيعذبها من دون أن يُشفيها نتيجة تفشي السرطان في جسمها، أو اللجوء إلى العناية التلطيفية لإدارة الألم والتخفيف من العوارض ومرافقتها في هذه المحطة الأخيرة من حياتها".

 

أصيبت والدتي ماري بسرطان الرحم في العام 2014، إلا أنها شُفيت منه بعد خضوعها للعلاج. بقيت مواظبة على فحوصاتها الدورية المطلوبة للتأكد من صحتها وعدم معاودة السرطان، إلى حين بدء ثورة 17 تشرين وما رافقها من أحداث ومن ثم انتشار وباء كورونا الذي جعلها ترفض الذهاب إلى المستشفى لاجراء الفحوص.

 

ولكن ما كانت تخشاه كان موجوداً في داخلها، ينمو بخبث في المكان نفسه قبل أن ينتشر في أنحاء جسمها.

 

ويسترجع ايلي ذلك اليوم عندما أدخلت والدته إلى المستشفى نتيجة احتباس المياه في بطنها، لنكتشف أن السرطان قد عاودها وهو منتشر في جسمها. لم يكن لدينا خيارات كثيرة، خصوصاً أن حالتها كانت متقدمة جداً ولم نكن نريدها أن تعرف حقيقة وضعها، وهنا كان التحدي الأكبر.

 

بعد طرح الطبيب والتعرف أكثر على العناية التلطيفية، قررت العائلة أن تسلك هذا الدرب بحثاً عن كل فرصة للتخفيف من آلام المريضة وعدم مصارحتها بخطورة وضعها حتى لا يؤثر ذلك على صحتها النفسية.

 

ويؤكد إيلي أن "الفريق الطبي رافقنا في هذه المرحلة، كانوا رائعين جداً في تقديم الرعاية الصحية، ويشعرون مع والدتي ويتعاملون مع آلامها وعوارضها بمهنية وعطف. لم تشعر والدتي بالألم، لم تتعذب ومرت هذه الفترة الصعبة بسلاسة إلى أن توفيت. لم يتركنا الفريق الطبي منذ دخولها إلى المستشفى حتى آخر يوم من حياتها، كانوا معنا دائماً ويرافقوننا بكل خطوة، لحظة بلحظة".

 

لاحظ إيلي مدى قرب الفريق من المريض ومرافقته الطبية له، ولا ينسى الدعم الذي تلقّاه "كنتُ منهاراً وأبكي بشدة لأنني كنت على علم بمصير والدتي، لم نخبرها بالحقيقة، ولكني كنت أتعذب كل يوم لأنني أعرف أنني سأفقدها في أية لحظة. لم يتركوني كما لم يتركوا والدتي، وهذا السند كفيل في أن يخفف من وطأة الوجع والفراق. لذلك أنصح كل من يريد أن يجنب أحباءه الألم والعذاب، أن يلجأ إلى العناية التلطيفية التي ستبلسم قساوة هذه الرحلة وتخفف من عذابها وتداعياتها الجسدية والنفسية".

 

ماذا نعرف عن العناية التلطيفية في لبنان؟

منذ انطلاق برنامج العناية التلطيفية في العام 2013، يشهد المركز ارتفاعاً واضحاً بالأعداد وصل إلى 519 معاينة في العام 2021.

 

تشرح اختصاصية الألم والعناية التلطيفية في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتورة رنا يموت أن "لبنان اعترف بالرعاية التلطيفية لأول مرة كتخصص طبي في العام 2013. وعليه، بدأ برنامج الرعاية التلطيفية في المركز الطبي في الجامعة الأميركية من خلال تأمين خدمات استشارية للمرضى الداخليين في المستشفى.

 

وساعدت هذه الخدمة المتوفرة في كل أنحاء المركز الطبي على إدارة متخصصة للألم والأعراض الأخرى التي كان يعانيها المريض، بالإضافة إلى تقديم النصائح للمرضى وعائلاتهم خلال اتخاذهم قرارات صعبة بشأن العلاجات الطبية ومتابعتهم بعد خروجهم من المستشفى.

 

 

في العام 2018، نجح الفريق في توفير الرعاية التلطيفية لأكثر من 1000 مريض، حيث باتت الخدمة مرجعاً مهماً لتوفير دعم إضافي للمرضى الذين يتلقون العلاج والرعاية في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت وعائلاتهم.

 

وتشير يموت إلى أن "الهدف من العناية التلطيفية يكمن في معالجة العوارض الناتجة عن المرض أو العلاج، والأهم تحسين نوعية حياة المريض حتى يتمكن من العيش أطول فترة من دون عوارض مزعجة والاهتمام بالمريض كما بعائلته.

 

تعتبر هذه الخدمة هي الأولى من نوعها في لبنان، التي تهدف إلى دعم المرضى وعائلاتهم من خلال توفير الرعاية التلطيفية في مرحلة مبكرة من مسار المرض الخطير أو المزمن بالتزامن مع العلاج الطبي.

 

يضم الفريق المتعدد الاختصاصات 3 أطباء، 4 ممرضين/ات، عالم اجتماع، معالجة نفسية وصيدلانياً، الذين يعملون سوياً لدعم المرضى وعائلاتهم نتيجة إصابة أحد افرادها بمرض خطير.

 

في حين يوفر العلاج الذي يعنى بالمرضى على اختلاف أعمارهم ومرضهم خدمات عدة أهمها:

 

* إدارة العوارض: مثل الألم، انقطاع النفس، التعب، القلق، الغثيان والتقيؤ التي يمكن أن تكون منهكة وتؤثر بشكل كبير ليس فقط على حياة المريض وانما أيضاً على قدرته على تحمل العلاج.

 

* أهداف الرعاية: توفير كل المعلومات اللازمة للمرضى وعائلاتهم لمساعدتهم على فهم خيارات العلاج وإرشادهم في هذه الرحلة حيث يواجهون صعوبة في قبول التشخيص الجديد واتخاذ القرارات حول العلاجات وكيف تؤثر على حياتهم.

 

* الدعم النفسي والاجتماعي: تسهيل التواصل مع الأطباء والممرضين/ الممرضات وتقديم المساعدة في مسألة العلاج والحصول على الأدوية، وتقديم الاستشارة والدعم لمساعدة المرضى وعائلاتهم في مختلف مراحل المرض للتأقلم والتكيف مع حالتهم الطبية.

 

* خطة الخروج: هذه المرحلة تحمل التحديات التي ترافق المريض في فترة انتقاله من المستشفى إلى المنزل والعمل مع العائلة لتسهيل هذه الخطوة. كما نعمل على تعليم أحد افراد الأسرة الذي عادة يكون هو مقدم الرعاية كيفية تقديم الرعاية المناسبة لأحبائهم ودعمهم خلال فترة مرضهم.

 

وتشير يموت إلى أن الدراسات أظهرت أن المريض الذي يخضع للعلاج التلطيفي يستفيد أكثر من العلاج الكيميائي في بعض مراحل مرضه. ومن المهم أن نعرف أنه ليس هناك دائماً نهاية حزينة، بل يوجد أيضاً بارقة أمل للمريض ولعائلته خصوصاً في المراحل الأولى من المرض.

 

ومع ذلك، ما زال وجود خدمة الرعاية التلطيفية مجهولة عند فئة كبيرة من المجتمع، أو الأخطاء الشائعة التي رافقت هذا العلاج والتي حصرت بأنها "للمرحلة الأخيرة في حياة المريض". ومن هنا تبدأ التحديات، التي لا تخفي يموت صعوبتها والتي تتمثل بثلاث نقاط أساسية، الأولى تشمل صعوبة الأطباء في التعامل مع هذا العلاج باعتبار أنهم يتخلون بذلك عن مرضاهم. النقطة الثانية ترتبط بعدم وجود تغطية مالية لاستشارات الرعاية التلطيفية، وما زالت جهات ضامنة عديدة لا تغطي مثل هذه الخدمات. أما النقطة الثالثة فتتعلق بمقاومة عائلات المرضى الفكرة نتيجة الأخطاء الشائعة حول مفاهيم الرعاية التلطيفية.

 

اقرأ في النهار Premium