تكرّرت المأساة مرة أخرى في آذار 2023. وفاة طفل لعدم وجود جراح قلب أطفال في لبنان. هذه الكارثة الصحّية تُعيدنا إلى شباط 2022، عندما كتبنا عن وفاة 4 أطفال صغار في أسبوعين فقط نتيجة هجرة 4 جراحي قلب أطفال إلى دول مختلفة بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلد.
لم يختلف الوضع ولم يتحسن، فالأزمة الصحية من سيئ إلى أسوأ، لا أطباء اختصاصيين كما في السابق ولا الكلفة الباهظة بمتناول الجميع. جريمة موصوفة لا يمكن السكوت أو غضّ النظر عنها، هي قصة حياة أو موت، وما جرى مع هذا الطفل قد يتكرّر مع أي شخص. فما الذي ننتظره بعد؟
بطلٌ وحيد يحارب في ساحة المعركة، يواصل تنقله بين لبنان وفرنسا أسبوعياً، يحاول بكل ما أوتيَ من قوة وصمود أن يستمر في إجراء هذه الجراحات لأطفال يعانون من تشوّهات خلقية في القلب.
يتحدث نقيب الأطباء الدكتور يوسف بخاش لـ"النهار" عن أن حادثة وفاة الطفل التي يجهل باقي تفاصيلها اطلع عليها من وزير الصحة فراس الأبيض خلال اجتماع في السفارة في فرنسا حين تحدث عن حالة الوفاة لعدم وجود جراح قلب أطفال.
بقي طبيب واحد يتنقل بين لبنان وفرنسا محاولاً سدّ هذا الفراغ الكبير الذي خلفته هجرة الأطباء منذ الأزمة حتى اليوم، فيما نحن بحاجة على الأقل وفق ما يؤكد بخاش إلى حوالى 12 جراح قلب أطفال بينما على أرض الواقع لا يوجد إلا جراح قلب أطفال واحد متنقل.
والخوف الأكبر أن تتكرّر هذه الحادثة سواء في هذا المجال أو باقي المجالات الطبية الأخرى. ويشير بخاش إلى أن "أطباء الإنعاش والتخدير باتوا قلّة اليوم، إضافة إلى أطباء الطوارئ الذين لم يتخطَّ عددهم قبل الأزمة 60 طبيباً، أما اليوم فانخفض عددهم إلى النصف تقريباً، علماً بأننا بحاجة إلى 250-260 طبيب طوارئ في لبنان، لأن هذا الأخير هو من يرسم المسار الاستشفائي للمريض". وبناءً على ذلك، يجب أن "نتدارك الموضوع ونعمل على تنظيم القطاع بالمقوّمات التي لدينا حتى لا نصل إلى حالات مأسوية أخرى".
برأي بخاش، إننا "أمام نزف مستمر، ما يطرح السؤال الأهم: إلى أين؟ صحيح أننا شهدنا هجرة كبيرة للأطباء عند بداية الأزمة، إلا أنه بعد 3 سنوات ونتيجة النزف المستمر، بدأنا نشعر بالآثار الجانبية لهذه الهجرة وتبعاتها".
ونتيجة هذا الفراغ الكبير، قامت النقابة بحملة استعانت من خلالها بأطباء من الخارج لتنظيم عمليات أجريت في مستشفى حكومي في البقاع الغربي. والهدف منها كان تلبية الطلب وسدّ هذه الفجوة التي خلفتها هجرة الأطباء من كل الاختصاصات خصوصاً الاختصاصات النادرة.
وبرغم كل التحذيرات الصحية التي تخرج إلى العلن، والقصص المأسوية التي تُروى بين الحين والآخر، يبقى اللوم على الدولة اللبنانية التي تتحمّل مسؤولية ما نحن فيه.
لا يختلف نقيب الأطبّاء السابق شرف أبو شرف عما قيل في هذا الموضوع، برأيه إن المشكلة تنقسم إلى نقطتين أساسيتين، الأولى تتمثل بهجرة جراحي قلب الأطفال الذين كان عددهم حوالى 4-5 ولم يبق منهم سوى طبيب واحد في مستشفى رزق وآخر يتنقل بين لبنان وفرنسا باستمرار. أما النقطة الثانية فهي مادية بحت، حيث إن كلفة عملية القلب المفتوح باهظة، فكيف الحال اليوم بعد تدهور الليرة وارتفاع الدولار؟
في السابق، كانت الجهات الضامنة الرسمية تغطي تكاليف هذه الجراحات، ولكن نتيجة انهيار الليرة لم يعد أحد يقبل بهذه التغطية التي أصبحت زهيدة جداً مقابل الكلفة العالية. وبالتالي المشكلة مادية أكثر منها طبّية.
طبّياً، ما زلنا قادرين في لبنان على أن نقوم بالواجبات العملية، هناك قسم من الأطباء باقٍ ويقاوم وهذه الفئة قادرة على تأمين الحد الأدنى في الحفاظ على صحّة المريض إلا أن الكلفة في المعدات والأدوية المستخدمة عالية وهي التي تمنع المريض من إجراء الجراحة.
إذن، هل أصبح الاستشفاء والطبابة للأغنياء فقط؟ يُجيب بو شرف بالقول: للأسف نعم، لأن الكلفة أصبحت باهظة. فعلى سبيل المثال كانت كلفة جراحة القلب المفتوح من دون وضع أي صمام قبل الأزمة تبلغ حوالى 7 آلاف دولار، اليوم التكلفة هي نفسها إلا أن دولار اليوم يساوي فوق الـ100 ألف ليرة وبالتالي كلفة الجراحة تساوي الملايين في ظل غياب الجهات الضامنة.
والحلّ يكون وفق بو شرف بالتمويل وتوفر الأموال لتأمين المعدات والأدوية اللازمة، وعجز قسم كبير من المرضى عن تحمّل التكاليف. والخلاصة، ما زال لبنان قادراً على تأمين الخدمات الصحية بمستوى عالٍ وبالسرعة المطلوبة ولكن تنقص الماديات التي هي العائق الأساسي وليس توفر الطبيب.
يواصل الاختصاصيّ في أمراض قلب الأطفال والتشوّهات الخلقيّة في مركز بيروت للقلب الدكتور ناصر عودة عمله الطبّي رغم الظروف الصعبة، يعرف تماماً أن الحالة التي وصلنا إليها مخيفة وكارثية. لقد كان من أوائل الأطباء الذين رفعنا معهم الصوت للتحذير من خطورة هجرة الأطباء الاختصاصيين وتحديداً جراحي قلب الأطفال. تتكرر المأساة اليوم للسبب نفسه من دون أن ننجح في الحدّ من النزف المستمر للهجرة الطبية والتمريضية.
يعترف في حديثه لـ"النهار" بأن "الوضع سيئ جداً لأن هجرة أصحاب الاختصاص أدت إلى نقص فاضح حيث لم يبق في لبنان سوى جراح قلب أطفال واحد يتنقل بين لبنان وباريس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وسد هذا الفراغ الكبير في البلد".
ونتيجة هذا الواقع، تكون الأولوية للحالات الطارئة والمستعجلة، والجرّاح الوحيد الدكتور يحيى جسّار يحاول جاهداً تلبية كل الحالات قدر المستطاع، وأحياناً تستغرق جراحة واحدة معقدة حوالى 10 ساعات لينهيها قبل أن يبدأ بأخرى. يتنقل بين مستشفى الجامعة الأميركية وحمود ومستشفى الرسول الأعظم خلال الأيام الثلاثة التي يكون خلالها في لبنان، فيما لا يوجد جراح آخر قادر على أن يلبّي باقي الحالات.
في لبنان، وفق الإحصاءات المسجلة في عام 2019، يعاني حوالى 400 إلى 500 طفل لبناني من تشوّهات خلقية في القلب. أما اليوم، فالعدد أكبر إذا احتسبنا الأطفال السوريين والفلسطينيين. ومع ذلك، يواجه المريض اللبناني صعوبة في تأمين تكاليف الجراحة التي تراوح بين 7 إلى 10 آلاف دولار، فيما هناك مساعدات ومنظمات تساعد اللاجئين على دفع هذه التكاليف.
كذلك يشير عودة إلى أنه "لا يوجد أطبّاء قلب أطفال في منطقتي الجنوب والبقاع، هناك أزمة حقيقية ونتخوف أن تتكرر هذه المأساة في اختصاصات طبية أخرى أو حتى مماثلة. هناك أطفال يولدون بتشوّهات خلقية، وهم بحاجة إلى عمليات جراحيّة طارئة، وهناك أطفال لديهم مشاكل في القلب وينتظرون لفترة طويلة بسبب غياب الجرّاحين المختصّين في القلب لهذه الفئة. وهذا النقص الفاضح ينعكس بقوة ويؤثّر على نتيجة الجراحة حيث إنّ بعضهم يموت بسبب الانتظار الطويل أو حالته الصحّية السيّئة".
نتفهّم الأسباب الجوهريّة التي دفعت الطواقم الطبّية إلى الهجرة، إلّا أنّ الحالة الصحّية التي وصلنا إليها في لبنان تفرض على الجميع توحيد الجهود ومعالجة الثغرات للنهوض بالقطاع الطبي الذي يئن منذ بداية الأزمة الاقتصادية.
اللبنانيون اليوم عالقون بين كلفة فواتير استشفائية باهظة لا قدرة لهم على تحمّل أعبائها، وخدمات صحية بالحد الأدنى بعد أن أصبحت الطبابة حكراً على الأغنياء فقط، فيما يعاني بعضهم من هجرة أصحاب الاختصاصات ولا سيما النادرة منها حيث قد يدفع بعضهم حياته ثمناً لها، وهذا ما حصل أخيراً مع الطفل الذي وُلد بتشوّه خلقي في القلب.