يبدو أنّ حالات التهاب الكبد الفيروسي أ، في طرابلس وجوارها وفي البقاع إلى ازدياد، هذا التفشّي المحلّي في بعض المناطق أعاد إلى الأذهان يوم شهد لبنان في العام 2014 على إصابة 2500 حالة بالفيروس نفسه. أمّا العدد التراكميّ للحالات بين عامَي 2005 و2014 الذي بلغ نحو 11 ألف حالة، كفيلة في أن تظهر أنّ هذا الفيروس مستوطن في البلد، والمضحك المبكي أننا لم نفعل شيئاً لتحسين هذا الواقع ووضع حدّ لهذا التلوّث المستشري.
الماء والطعام ملوّث بالبراز، اليوم طرابلس والبقاع وغداً من يدري؟ ندور في حلقة مغلقة، نرفع الصوت عندما نشهد على تسجيل حالات مرضية، يهرع المسؤولون للملمة القصّة وننتهي بتناسي المشكلة والمضيّ قدماً. لم تفلح كلّ الفضائح المتعلّقة بسلامة الغذاء والتلوث من محاسبة أحد، ولكنّها كشفت عن أنيابها بزيادة سنوية لحالات السرطان، ناهيك عن التسمّم والحالات المرضيّة الأخرى. لم تشفع تحذيرات الدول والاتّحاد الأوروبيّ بالتوقّف عن استخدام بعض المواد الكيميائيّة من إيقاف أيّ مسؤول أو من سحب أيّ منتج في السوق اللبنانية، وبقي الشعب يأكل ويشرب و"ألله وحده يعلم حقيقة ما نأكله"!
بعد أيام من الفحوصات والمتابعة، وبعد تسجيل أكثر من 250 حالة من فيروس الـHepatitis A، خرجت وزارة الصحّة بعد دراسة الوضع الوبائيّ في المناطق، وارتفاع في عدد المرضى، إلى الإعلان أنّه "من المرجّح أنّ التفشّي ناتج عن تردٍّ في البنى التحتية، ما أدّى الى خلط بين مياه الشفة ومياه الصرف الصحّي"، مشيرة إلى أنّ "ارتفاع عدد الحالات التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام في مناطق لبنانية متفرّقة لا تعتبر من ضمن التفشّي الحاليّ التي تشهدها محافظة الشمال، بل هي أعداد تراكميّة منذ بداية العام الحاليّ، وما هي إلّا انعكاس لوضع مرض "الصفيرة أ" المستوطن في لبنان".
وبينما كانت وزارة الصحّة تبرّر أنّ 590 إصابة هو مجموع الحالات المسجّلة منذ بداية العام 2022، كان الفيروس يتفشّى بصمت في بعض المناطق، في ظلّ انقطاع الأدوية واللقاحات، ومنها لقاح ضدّ التهاب الكبد الفيروسي أ. هل علينا أن نقلق فعلاً من هذا التفشّي؟ وكيف يمكن معالجة تسرّب مياه الصرف الصحّي باتّجاه أنابيب مياه الشفة؟
يشرح البروفسّور في مركز سلامة الغذاء في جامعة جورجيا في الولايات المتّحدة، عصمت قاسم في حديثه لـ"النهار" أنّنا "نتحدّث منذ سنوات عن مياه الصرف الصحّي التي تصل إلى الأنهار والبحر من دون معالجة، وبما أنّ 60 في المئة من الأراضي الزراعية يتمّ ريّها من مياه الأنهار والبحيرات، وبما أنّ هذه المياه ملوثة، فهذا سيؤدّي بطبيعة الحال إلى تلوّث الإنتاج. والدليل على ذلك، أنّ بعض الدراسات المحدودة التي أجريناها سابقاً أظهرت أنّ الخضار يحتوي على نسبة عالية من بكيتيريا إي كولاي (E-COLI) وبكتيريا Coliforms، وهذا يشير إلى وجود تلوّث برازيّ. كما أنّ مياه الصرف الصحّي تحتوي على بكتيريا وفيروسات، وطفيليّات التي تُسبّب أمراضاً مستعصية، بعضها مقاوم لمضادّات المكيروبات التي يصعب علاجها، وبعضها يحتوي على أدوية ومواد كيميائيّة تؤثّر على النموّ والهرمونات، وقد تُسبّب الإصابة بالسرطان.
وعليه، لا يمكن إخفاء معاناتنا من مشكلة تلوّث واسعة، سببها أنّ معامل التكرير التي حصلت على التمويل لبنائها، بعضها انتهى ويحتاج إلى تمويل لتشغيله، والبعض توقّف نتيجة صرف الأموال. ويُقدر قاسم أنّه تمّ صرف نحو 1.3 مليار دولار لإنشاء معامل تكرير مياه الصرف الصحّيّ، وبحسب التقديرات لا يعالج سوى 2-3 في المئة من هذه المياه، في حين يبقى 92-95 في المئة منها غير معالج في لبنان. ما يعني أنّ كلّ الجراثيم الموجودة والأدوية والمواد الكيميائيّة التي نستخدمها يصبّ في الأنهر وبالتالي في الزرع. اذاً، نحن نتحدّث عن تلوّث جرثوميّ وتلوّث كيميائيّ، وقد كشفت الدراسة التي شملت 14 نهراً في لبنان أنّ 70 في المئة من عينات المياه من الأنهار غير صالحة للريّ جرثوميّاً. ونتيجة ذلك، أيّ زرع يتمّ ريّه بهذه المياه سيؤدّي إلى تلوّث المنتجات الزراعية، ومن بين هذه الملوّثات نجد فيروس التهاب الكبد أ، أو .Hepatitis A المرتبط بشكل كبير بالتلوث البرازيّ.
ويشدّد قاسم على أنّه "في العام 2014 سُجلت نحو 2500 حالة من فيروس اليرقان أو Hepatitis A، وكان سببها تلوّث في مياه الصرف الصحّي. لذلك قد تكون سلسلة الغذاء والمياه الرئيسيّة كمصدر ملوّث، ولقد وثّقنا في أبحاثنا السابقة أنّ الشمال يعاني من سلامة الغذاء أكثر من أيّ منطقة أخرى في لبنان. وبالتالي يمكن أن يكون سبب الفيروس تلوّث الخضار أو الأطعمة أو عبر تلوّث المياه التي تصل إلى المنازل أو المياه المباعة. وعلى الرغم من تأكيد مصلحة المياه في طرابلس أنّ نتيجة العيّنات كانت سلبيّة، وأنّ المياه صالحة للشرب، إلّا أنّ الموضوع ليس بهذه البساطة، ولا ينتهي عند هذه النتيجة.
من المهمّ معرفة وتيرة فحص المياه وهل العينات المأخوذة تمثل مجموع الحالات وما الذي تمّ فحصه بالتحديد؟ لأنّ فحص الـHepatitis A يتطلّب تقنية حديثة حيث تركّز عيّنة المياه لعزل للحمض النووي وإجراء PCR شبيهة بطريقة فحص الكوفيد. ولنسلّم جدلاً بإجراء الفحص، هذا لا يعني أنّ المياه قبل أن تصل إلى المستهلك لم تتلوّث، خصوصاً أنّ هناك تعدّيات كثيرة على شبكات المياه في البلد. وفي حال وجود تلوّث في مكان ما بعد خروجها من المصدر (أي شركة المياه)، فهي ستصل بطبيعة الحال ملوّثة عند المستهلك. لذلك، يجب الحديث مع المرضى والتأكّد من عدم شرائهم أو شربهم المياه من المصدر نفسه، وعندها يتّضح ما إذا كان التلوث ناتجاً عن مياه ملوّثة أو عن خضار وأطعمة ملوّثة. وعادة عندما نشهد على انتشار وباء، لا يمكن ربطه بمسألة النظافة فقط وإنّما بمصدر ملوّث مشترك يُسبّب هذه الإصابات والحالات.
إذاً، هذا الفيروس ليس جديداً، ويُسجّل لبنان سنوياً مئات الحالات من فيروس اليرقان، حيث بلغ مجموع الحالات من العام 2005 حتّى العام 2014 نحو 11 ألف حالة. وقد شهد العام الماضي انتشاراً واسعاً للفيروس في البقاع، كما هي الحال اليوم، حيث ينتشر في طرابلس والبقاع. ويبقى السؤال، طالما أنّ التهاب الكبد أ، مستوطن في البلد، لماذا لا يتوفّر اللقاح لتأمين الحماية في بيئة معرضة لانتشار هذا الفيروس؟
وينتقل هذا الفيروس عبر الأطعمة الملوثة أو عبر المياه الملوّثة، ويجب تناول الطعام أو شرب المياه حتّى نصاب به، صحيح أنّ النظافة الشخصية مهمّة ولكنّها ليست مسؤولة لانتشار وباء في مناطق متفرّقة. وبرأي قاسم أنّ "الموضوع مرتبط بحالة التلّوث الذي نعيشه اليوم في البلد، سواء تلوّث مياه الأنهر والبحر أو السلسلة الغذائية وجميعها مرتبطة ببعضها، لاسيّما أنّ هناك بعض المناطق تعيش في واقع فقر، وتفتقر لأدنى مقوّمات السلامة الغذائية.
ماذا عن الحلول؟
يدرك قاسم أنّ "الظروف الاقتصادية والمالية التي تعصف بالبلد تزيد من صعوبة الأمر والمعالجة الجذرية، ولن يكون تفعيل معامل تكرير الصرف الصحّي وارداً في هذه الفترة، لذلك ننصح وزارة الزراعة بتوعية المزارعين على نوعية مياه الريّ ومخاطر بعضها، والعمل على تأمين بديل للمزارع من إيجاد مصدر مياه أنظف من شأنه أن يقلّل من المخاطر.
أمّا من جهة المستهلك، أنصح بتجنّب تناول الأطعمة النيئة ولاسيّما اللحوم، وغسل الخضار بمياه نظيفة وبطريقة جيدة، واستخدام مياه الشرب لغسل الخضار أو وضع "فيلتر"، كما ننصح بشراء منتوجات زراعية من مصدر موثوق ونظيف.