مات علي شرف الدين، ابن الخامسة عشرة من عمره بعد يومين من تعرّضه لحادث سير في بلدته الطيبة الجنوبية. لم يُقاوم جسده أكثر، توفّي سريريّاً وتضاءلت فرص نجاته. تمسّك والداه بالأمل، لكنّهما سرعان ما اكتشفا ألّا أمل في نجاته والموت محتّم.
داخل غرفة في مستشفى الرسول الأعظم كان القرار البطل، ومن عمق الوجع جاء قرار الوهب ليُفرح قلوب عائلات انتظرت طويلاً لإنقاذ أحبّائها. لم يستغرق الأمر أكثر من 5 دقائق من التفكير، كان حسن والد علي شرف الدين يعرف أنّ وفاة ابنه رغم قساوتها ستكون بداية حياة مرضى آخرين ينتظرون متبرّع لإنقاذ حياتهم.
قد يصعب على الأهل اتّخاذ هكذا قرار، إنّه قرار جريء ويستحقّ التوقّف عنده، خصوصاً أنّ ثقافة وهب الأعضاء ما زالت خجولة بعض الشيء في مجتمعنا. ومع ذلك، فعلاها والدا علي بكلّ محبة وقناعة، وأصبحت حياة علي موزّعة على حيوات أخرى، في كلّ جسد من أجساد من تبرّع لهم يعيش جزء من علي. إنّه العطاء الأسمى!
يعترف حسن والد علي أنّه لم يتوقّع أن "تتحوّل وفاة علي إلى بطولة، وأنّ ابنه الذي بكاه وحرق قلبه وهب أعضاءه إلى أشخاص في حاجة إليها ليعيشوا. كُتب لي أن أراه قبل أن يموت بخمس دقائق، صودف مروره بقربي في البلدة، ألقيتُ عليه التحية وسألته إلى أين يذهب، فقال لي أنّه سيقضي وقته مع أصدقائه. كانت تلك اللحظات الأخيرة قبل أن أصل إلى المنزل وأتلقّى الخبر المفجع."
لم تمرّ دقائق حتّى اتّصل به أحدهم ليخبره أنّ علي تعرّض لحادث سير وهو موجود في المستشفى، توجّه فوراً إلى مستشفى مرجعيون الحكوميّ غير المجهّز بشكل كافٍ لاستقبال مثل حالة علي. فكان لا بدّ من نقله إلى مستشفى آخر، ساعد الجيش في تأمين طوافة ونُقل إلى مستشفى الرسول الأعظم.
يومان من الأصعب على عائلة شرف الدين، تمسّك حسن وزوجته بالأمل، رغم ضآلته، إلى النفس الأخير، إلّا أنّ ساعة الحقيقة حلّت بوفاة ابنهما علي. بعض المقربين من العائلة كانوا على معرفة بحقيقة وضعه الصعب، لم يكن بإمكانهم إخفاء الحقيقة أكثر، والأهمّ مصارحة العائلة بخيار وهب الأعضاء.
يروي حسن تلك اللحظات لـ"النهار" قائلاً: "تولّى صهري الموضوع وكان يتابع وضع علي الصحّي بكلّ تفاصيله المرّة. وعندما لم يعد هناك أمل في النجاة، وقد كان ابني متوفياً سريرياً، وضعني الطبيب أمام خيار وهب الأعضاء. وافقتُ بسرعة، كنتُ على يقين أنّ وفاة ابني ستنقذ حيوات أشخاص آخرين، وهذه التعزية الأكبر بالنسبة إلينا".
وبالفعل، اتّصلت المستشفى بالجمعية الوطنية لوهب الأعضاء وحضرت المندوبة لشرح تفاصيل عملية الوهب والتشديد على أهمية السرّية وعدم ذكر أسماء الأشخاص الذين تلقّوا الوهب حفاظاً على خصوصيّاتهم.
برأي حسن أنّ "علي توفّي جسدياً، إلّا أنّ أعضاءه ستبقى حيّة في أجساد أشخاص آخرين. حتّى اليوم، خضع اثنان لعملية زرع كلى، وأثنان آخران لعملية زرع كبد. ولا نعرف عن البقية شيئاً، وسمعنا أنّه تمّ أخذ خلايا جذعيّة وأنسجة من المتوقّع أن يستفيد منها عشرات الأشخاص.
ويتحدّث والده عن "محبة أصدقائه وصفاته الإيجابية التي يتغنّى بها الجميع، لقد سمعت من أصدقائه أخباراً كثيرة عنه لم أكن أعلم بها، عن شخصيّته المرحة وأخلاقه وتصرفاته. "الحمد لله ترك أثراً طيباً عند كلّ من عرفه".
كان يطمح علي أن ينهي دراسته حتى يسافر إلى الخارج ويستكمل علمه في الطبّ، كان يريد أن يصبح طبيباً إلّا أنّ الموت كان أسرع من كلّ الأحلام والتمنّيات.
ويختم والده بعبارة مؤثرة "لن يكون للكلام الأثر نفسه مثل الفعل، لقد لمستُ بعد وفاة علي ووهب أعضائه ألّا شيء يُضاهي فرحة الخبر المنتظر بإيجاد متبرّع، وأن يعيش المتلقّي حياة طبيعية بعد معاناة مع المرض. لم أتوقّع أن توقظ وفاة علي كلّ هذه المشاعر وأن نسمع كلّ الأشياء الطيّبة. "
في خضم الزخم في وهب الأعضاء، سقط البعض في تسمية المرضى وخالفوا سرّية الحفاظ على اسم المريض المتلقّي. وفي هذا الصدد، أسفت الهيئة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية NODLB في بيان، "لأن يتطرّق بعض الإعلاميين إلى موضوع وهب الأعضاء وكأنّه غير موجود في لبنان، مع العلم أنّ أوّل واهبة متوفّاة في منطقة الشرق الأوسط كانت من لبنان سنة 1990، والهيئة الوطنية NODLB وضعت برنامجًا وطنيًّا على غرار البرامج العالمية منذ عام 2010".
كما أسفت "لأن يُخالف العديد من المواطنين القوانين المرعيّة الإجراء في موضوع وهب وزرع الأعضاء وأن يستغلّوا وسائل التواصل الاجتماعيّ لِنشر خبر عن عملية وهب أعضاء مع ذكر الأسماء وبعض التفاصيل الطبيّة للمرضى المتلقين، أو إجراء سبق صحافيّ ومقابلة عائلة الواهب خلال مراسم الدفن دون الأخذ في الاعتبار الضرر الذي سيلحق بالمرضى المنتظرين وببرنامج وهب وزرع الأعضاء".
وأوضحت أنّه "لمّا كانت الهيئة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية هي هيئة مستقلّة لا تبغي الربح وتعمل تحت إشراف وزارة الصحة العامة اللبنانية، ولمّا كانت الهيئة الوطنية بموجب قانون الآداب الطبية رقم 240 الصادر سنة 2012، لاسيّما المادة 30 منه، المرجع الرسميّ الوحيد المخوّل مراقبة جميع عمليات وهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية على كافة الأراضي اللبنانية، ووضع الشروط والضوابط القانونية والأخلاقية والطبيّة، بالإضافة الى نشر ثقافة وهب الأعضاء والأنسجة البشرية وتدريب العاملين في القطاع الصحّي على تطبيق هذا البرنامج، وتقييم المؤسسات الاستشفائية ومراكز زرع الأعضاء بالتعاون مع وزارة الصحة العامّة، توضح أنّه لا تتمّ أيّ عملية وهب أعضاء وأنسجة في لبنان دون إشرافها المباشر على أدقّ التفاصيل، بما في ذلك مسؤوليتها الحصرية في توزيع الأعضاء إلى المرضى المسجّلين على لائحة الانتظار الوطنية".
وطلبت الهيئة من كلّ مواطن لبنانيّ أن "يقوم بواجبه بمسؤولية لحماية هذه القضية "لأن ما حدا فوق راسه خيمة". كلّ المعنيين في الدولة والمؤسسات الاستشفائية والعاملين في القطاع الصحّي وعامة الناس وخاصّة منهم المؤسسات التربوية والجامعية ورجال الدين والإعلام مسؤولين عن نجاح هذا البرنامج الذي يحتاجه كلّ واحد منّا، ولكن مع الالتزام التامّ والجدّي بما ورد في القانون اللبنانيّ: وهب الأعضاء هو قرار حرّ، غير مشروط، مجّاني وسرّيّ".