لم يتوقّع أحد مرضى السرطان الذي كان يحمل علبة دوائه بين يديه أن يكون ترياقه الموعود مجرّد "مَي وملح"، بعد أن تجشّم عناء إحضاره من تركيا؛ وهو كان يأمل في أن يقضي دواؤه الثمين على مرضه السرطانيّ، ليتفاجأ بأنّ أمله خاب بعد اكتشاف حقيقة "الماء" في الدواء، وأنّه وقع ضحيّة الغشّ والفساد.
دخل المريض إلى مستشفى "جبل لبنان" ليتلقّى علاجه، فكانت المفاجأة أن ما يُفترض به أن يكون علاجاً هو مجرّد "ماي وملح"، وأن الدواء الذي اشتراه بطلوع الروح ليس بشيء.
اليوم، لا أحد يعلم كمّية الأدوية المزوّرة التي دخلت إلى لبنان من دون رقابة طبيّة فاعلة، لكن الأكيد أنّ تلك الأدوية منتشرة، والدليل ما كشفه مستشفى "جبل لبنان"، بعد أن سبقه إلى الاكتشاف مستشفى آخر في حادثة مماثلة، إثر اكتشاف طبختين مزوّرتين أيضاً لدواء سرطان آخر منذ أشهر.
ولأن مرض السرطان يفرض دقّة وتأهّباً وعنايةً خاصّة، لا يمكن المضي بأيّ دواء من دون التأكّد من فاعليّته وجودته. وهذا ما دفع المستشفى إلى فحصه ليتبيّن أنّه "ماي وملح"؛ ولولا المستشفى وقدراته لعجز المريض بالتأكيد عن اكتشاف الحقيقة، ولربّما دفع ثمن الفساد من صحّته وعمره.
واللافت أن بعض هذه الأدوية المزوّرة، التي دخلت إلى لبنان بكمّية كبيرة، وتمّ اكتشافها عبر "رقم الطبخة"، قُدّمت إلى مرضى سرطان خلال فترة الانتخابات. المسألة خطيرة، ولا يُمكن السكوت عليها! ولكن هل من يراقب الأدوية التي تدخل بطريقة غير شرعية؟
من يضمن جودتها وفاعليّتها؟
ما صحّة ما يتناوله المريض اللبناني في ظلّ الأزمة الدوائية التي تعصف بالبلد؟
باتت هذه الأدوية التي تأتي في حقائب تُثير الرّيبة، فليس كلّ ما نراه في علبة مغلّفة، عليها اسم الدواء، يكون دواءً أو مادّة جيّدة.
تُعيد هذه الحادثة إلى الأذهان فضائح عدّة، منها فضيحة دواء "البلافيكس" المزوّر، التي هزّت لبنان، وفضيحة "أمصال السرطان التي كانت مجرّد "ماي وملح"، بالإضافة إلى فضيحة بعض المستوصفات غير الشرعية التي كانت تحتوي على أدوية مهرّبة ومزورة. واللافت أن جميع هذه الفضائح الصحيّة مدعومة سياسياً ومن أصحاب نفوذ كبير، حيث يخرج بعضهم "كالشعرة من العجينة".
ما يجري مع المرضى من عمليات غشّ وتزوير على حساب صحتهم، دفع بنقيب الصيادلة جو سلوم إلى رفع الصوت مطالباً بالوقوف ضدّ أيّ محاولة لتكرار ما حصل. وقد أوضح لــ"النهار" بالقول: "نقف اليوم إلى جنب كلّ مريض يتعرّض لشتى أنواع التزوير لمنع قتله بالدواء المزوّر أو المهرّب. نقف إلى جانب المريض الذي اشترى دواءً للسرطان، وتبيّن أنّه مزوّر، لأن الدولة لم تضع الخطة السليمة لتأمين الدواء الجيّد".
وشدّد سلوم على أن "الأدوية المزوّرة والمهرّبة تأتي من كلّ مكان، وليست محصورة بدولة واحدة، ناهيك بمدى فاعليّتها نتيجة تهريبها، وتعرّض هذه الأدوية إلى الحرارة والرطوبة؛ فحتى لو كانت الأدوية جيدة ستصبح غير مجدية بسبب سوء نقلها وغياب الشروط اللازمة في عملية النقل. إذا كان انقطاع الكهرباء يُهدّد الأدوية الموجودة في الصيدليات، فكيف بتلك التي تعبر تحت أشعة الشّمس وفي ظروف مريبة؟!".
لذلك، يطالب سلوم "بتبنّي خطة دوائيّة واضحة تبدأ بمؤشر أسعار للأدوية يصدر بشكل دوريّ، يؤمن تسليم الدواء من المستوردين إلى الصيدليات. وطالما الأدوية مقطوعة وغير متوافرة فستبقى الأدوية المهرّبة والمزوّرة تدخل إلى لبنان بشتّى الطرق؛ فالمريض يبحث عن بديل، وهذا الفقدان يدفع ببعض التّجار إلى استغلال الأزمة لتحقيق أرباح بعيداً عن فاعلية هذه الأدوية وجودتها أو خطرها على صحّة المريض".
ويُحذّر سلّوم من أننا "نحن أمام وضع صحيّ خطرٍ جدّاً، ولا يمكن التهاون مع الانتشار الكبير للأدوية المزوّرة والمهرّبة في المستودعات والحقائب وعلى وسائل التوصل الاجتماعي وفي دور العبادة. فعملية البيع والشراء للدواء باتت ترتكز على الربح بعيداً من الضمير والمعيار الإنساني؛ فالكل يريد استغلال الأزمة، والكلّ
دخل في لعبة السوق السوداء والاحتكار والغشّ، حتى في الصحّة!".
ليست المرة الأولى التي يُكشف فيها عن تلاعب في الأدوية والغش فيها، فمنذ شهرين كشف نظام Meditrack أنّ هذه الطبخة غير مستوردة إلى لبنان ، وعليه تمّ الاتّصال بالمختبر في الخارج لتحليل الطبخة والتي كشفت أنّها مزورة.
هذه الحادثة التي أدرجت ضمن الحادثة الفردية جاءت عبر تهريب غير قانوني وتشمل طبختين مزرورتين لنفس الدواء. ووفق رئيسة مصلحة الصيدلة في وزارة الصحة الدكتورة كوليت رعيدي في حديث سابق لـ"النهار""لقد أبلغت وزارة الصحة المستشفيات والصيدليات وكل المعنيين حول هذه الطبخة وتمّ إصدار قرار منع وسحب تداول وتعميمها على كل القطاع الصحيّة في حال جاء مريض يحمل هذه الطبخة من الدواء. إلّا أنّنا لم نتبلغ من أيّ مستشفى عن حالات متشابهة وبقيت ضمن الحادثة الفردية ولم يكن من خلال المستشفى الذي تشتري الدواء عبر قنوات صحيحة وقانونية".
من جهة ثانية، يعترف نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة بأن "ما نكتشفه من أدوية مزوّرة هو جزء بسيط من الأدوية الموجودة في السوق اللبنانية، ويعود إلى قرار بعض المستشفيات مراجعة الدواء الذي يؤمّنه المريض بنفسه للتأكّد من نوعيّته وجودته، ممّا يسمح بكشف التلاعب والغشّ الحاصل. لذلك هذه الجهود يقوم بها بعض الأطباء والممرّضين والمستشفيات لبعض الأدوية الحسّاسة كالأدوية السرطانية بعد محاولتهم التواصل مع الشركات المصنّعة للتأكّد من الرقم التسلسليّ للدواء وبعض المعلومات الخاصّة به. وهذا البحث ساعد على الكشف عن بعض حالات التزوير، إلا أن العدد أكبر بكثير".
ويرى جبارة أنّ "الفراغ الناتج من الانقطاع الدوائيّ في السوق اللبنانية ساعدت شبكات التهريب منذ سنة على انتشارها، حيث أصبح هناك شبكات تهريب منظّمة وبرحلات متواصلة إلى الخارج لجلب الأدوية من دون رقابة الوزارة والجمارك ونقابة الصيادلة، وبيعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والمشكلة أنّنا لم نكشف سوى بعض أدوية الأمراض السرطانيّة، لأن المستشفى يسعى إلى البحث عن جودة هذا الدواء، والتأكّد من صلاحيته. ولكن بالنسبة إلى مرضى القلب والضغط والأمراض المزمنة فليس هناك من يطلب مراجعة أدويتهم التي يؤمّنونها، وبالتالي لا نعرف مدى سلامتها وفاعليتها."
وعليه، جزء كبير من سوق الدواء في لبنان يقع خارج الرقابة المنتظمة للوزارة والنقابات، وأصبح جزء من هذه السوق يعتمد على التهريب، بما يشمل من تزوير.
ووفق جيارة "لاحظ الصيادلة أن الناس تشتري أدويتها من خارج الصيدليات، ممّا جعل الدواء خارج الاستيراد المنظّم، وأصبح بيد شبكات التهريب".
ولكن ما الحلّ؟
برأي جبارة "يجب سدّ هذا الفراغ الدوائيّ من خلال دعم شبكة تنظيم الدواء (المستوردين)، وتفعيلها، من أجل استيراد الأدوية، فنساهم بذلك في خرق شبكات التهريب غير القانونية، ونحدّ من نشاطها وانتشارها. وفي التجربة السابقة، أدّى دعم الأدوية وعدم توافرها في لبنان إلى فتح المجال أمام المهرّبين. لكن مع سياسة ترشيد الدواء، التي قرّر وزير الصحة اعتمادها لتركيز الأموال المخصّصة لاستيراد الأدوية الأساسية، لا سيّما المستعصية منها، ورفع الدعم عن باقي الأدوية، والإبقاء على أرخص دواءين من كلّ صنف."
ويضيف جبارة: "بعد أن انتقلنا من مشكلة دعم الأدوية وعدم توافرها في الأسواق نتيجة الأموال المحدودة المخصّصة لها إلى مشكلة أخرى تتمثل بدواء غير مدعوم ومسعّر على غير سعر السوق الفعليّ، أدّى هذا الفارق الكبير بين سعر السوق والسعر الفعلي للدواء إلى شدّ الخناق على المستوردين، وكانت النتيجة تعزيز التهريب". لذلك يدعو نقيب المستوردين "إلى وضع خطّة تكون عادلة للمستورد والصيدليّ والمريض على السواء، حتى نسترجع السوق السوداء من المهرّبين والمزوّرين قبل فوات الآوان".