تتّجه الأنظار الى مفاعيل الإخبار الذي تقدّم به عضو كتلة "اللقاء الديمقراطي" النائب وائل أبو فاعور، إلى النيابة العامّة التمييزيّة، وذكر فيه أسماء الشّركات والأشخاص والمهرّبين والمتورّطين في ملف الأسمدة الزّراعيّة الفاسدة. فأيّ خواتيم سيحصد الملفّ؟ ومن يرفع الضرر الواقع على صحّة الناس؟
تناول أبو فاعور بالكشف ما يجري في ملفّ الأدوية الزراعية الممنوعة وتهريبها والأخطر استهلاكها، ممّا يجعل معدّلات السرطان المرتفعة مفهومة، ومتوقّعة، بعد كلّ الذي يأكله اللبناني أو يتنفّسه!
ودعا أبو فاعور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى عقد اجتماع طارئ مع الوزراء المعنيّين، وهم وزراء الصحّة والبيئة والزراعة والداخلية والعدل، لمنع الضرر الذي يلحق بالمواطنين اللبنانيين، من دون استثناء، متمنّياً تحرّكاً سريعاً من الأجهزة الأمنية كافة لوضع حدّ لهذا الأمر.
ندور في حلقة التهريب المقيت والقاتل، وأهمّ منافذها الحدود السورية أو مرفأ بيروت، وبطلها الأساسيّ مهرّب من الجنسيّة السورية، إلى جانب شركاء لبنانيين في عدد من المناطق. لكن ماذا بعد هذا الإخبار؟ ماذا بعد هذه الفضيحة التي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؟
وزارة الزراعة ليست المعنيّة الوحيدة بهذا الملف، فالمضحك المبكي أن هناك 7 وزارات أخرى مكلّفة بالرقابة على سلامة الغذاء! وبالرّغم من إقرار قانون سلامة الغذاء، وتشكيل لجنة وطنية لسلامة الغذاء، فإنها بقيت حبراً على ورق، فيما الفوضى تواصل انتشارها في بلد منهك اقتصادياً وصحيّاً واجتماعيّاً؟
بعد المعلومات عن تهريب مبيدات زراعيّة ضارّة إلى لبنان، أصدرت وزارة الصحة بياناً توضيحياً، جاء فيه أن "وزارة الصحة العامة مسؤولة عن تنظيم عملية استيراد مبيدات الحشرات والقوارض المنزلية فقط، أما استيراد المبيدات الزراعيّة فيخضع لصلاحية وزارة الزراعة".
وأضاف البيان أن "الموافقة تتمّ على استيراد مبيدات الحشرات والقوارض المنزلية استناداً إلى إجازة مسبقة تُمنح لصاحب العلاقة، على أساس الملفّ الفنيّ المقدّم من قبله، والذي يشتمل على جميع المستندات التي تُثبت فاعليّة المنتج. وفي هذا المجال، على صاحب العلاقة إثبات أن المادة الفعّالة معتمدة لدى الاتحاد الأوروبي وواردة على لائحة الوكالة الأوروبية للمواد الكيميائية".
يؤكد رئيس جمعية "حماية المستهلك" زهير برّو لـ"النهار" أن ملف المبيدات الزراعية المسرطنة والممنوعة قائم قبل الانهيار، و"كان التهريب سارياً لأصناف محدّدة، ولبعض مبيدات العصافير والموادّ السامّة التي مُنع استيرادها بقرار من وزارة الزراعة، إلا أنّه بقي على نطاق ضيّق. أما اليوم، وفي ظلّ انهيار الدولة، وفشل إداراتها في المراقبة، بالإضافة إلى الوضع الفوضويّ في سوريا، فقد بات إدخال الموادّ السامّة والمنتهية صلاحيتها في غاية السهولة".
يرى برو أن "المشكلة تكمن في غياب المرجعية الواحدة، وهي اللجنة الوطنية لسلامة الغذاء، وتضارب صلاحيات 8 وزارات أساسية في مراقبة الملفّ. غياب تطبيق القانون وتقاعس الإدارات عن تطبيق مهامها، حماية السلطة للتجّار على حساب صحّة المواطن اللبناني، ستؤدي إلى الوضع الكارثي الذي وصلنا إليه. نحن أمام غياب فاضح للتنظيم، وفي ظلّ عدم تطبيق الإرشاد الزراعي، سيبقى لبنان يواجه مأزقاً بنيوياً في الزراعة، وبالتالي سيتفاقم التسمّم الغذائيّ والإصابات بأمراض عديدة، على رأسها الأمراض السرطانية".
وفي هذا الصدد، أعلن نقيب الأطباء الدكتور يوسف بخاش المسار التصاعدي للإصابات السرطانية في لبنان، التي سجّلت في عام 2005 نحو 8 آلاف حالة سنويّة، قبل أن ترتفع إلى 10 آلاف إصابة سنوية. أما اليوم فيُقدّر عدد الإصابات بما بين 16 إلى 20 ألف إصابة جديدة في لبنان، علماً بأن هذه الإحصاءات لا تشمل الحالات السرطانيّة المكتشفة في الأسلاك العسكرية.
ويرى بخاش أن أسباب هذه الزيادة المطّردة عديدة، أهمّها التكوين الجيني للشعب اللبناني، الذي يؤدّي إلى ظهور حالات سرطانية في فئة الشباب، خصوصاً على مستوى سرطان الثدي والأمراض الليمفاوية.
أما السبب الثاني الذي يُفسّر هذه الزيادة فيتمثّل بغياب حملات التوعية، التي هي من مسؤوليات الدولة عامّة، ووزارة الصحة خاصّة، وهدفها الكشف المبكر عن الحالات، وبالتالي زيادة نسبة الشفاء.
كذلك، يشير نقيب الأطباء إلى أن غياب المراقبة للمنتجات التي تدخل بطريقة غير شرعية تجعل متابعة وفحص كلّ ما يدخل أمراً مستحيلاً. ولقد اكتشفت وزارة الزراعة دخول أسمدة ومبيدات تحتوي على موادّ سامّة مسرطنة، ونتيجة ذلك أقفلت القوى الأمنية هذه المخازن.
لذلك يطالب بخاش بوقف وضبط هذه الموادّ الممنوعة، بل بإصدار أحكام صارمة بحق المرتكبين والمخالفين، وبزيادة الرقابة على الحدود لمنع دخول هذه الموادّ وفق ما يحصل اليوم.
غياب التوجيه وسوء الاستخدام
يشدّد البروفسور عصمت قاسم العامل في مركز سلامة الغذاء في جامعة جورجيا (الولايات المتحدة) خلال حديثه على نقطة مهمّة وأساسية، تتمثّل بوجود مبيدات زراعيّة ممنوعة، لكنّها مدرجة على قائمة وزارة الزراعة، ويقول "هناك غياب لتوجيه المزراعين حول كيفيّة استخدام المبيدات ونوعها والكميّة الموصى بها".
ويؤكّد أن إحدى الإحصائيّات أشارت إلى أن ٥٦ في المئة من المزارعين فقط لديهم علم بلائحة المبيدات الممنوعة التي تعتمدها وزارة الزراعة، بينما ٨٧ في المئة من المزارعين عبّروا عن تفضيل مبيدات أقلّ تأثيراً على البشر إذا تأمّنت لهم في الأسواق.
للأسف، هناك غياب فاضح للتوجيه حول كيفية استخدام المبيدات الزراعية والكميّة الموصى بها واحترام الفترة التي يجب استخدام هذه المبيدات حتى المسموح منها. في الزراعة لكلّ شيء قاعدته وخصائصه، وأيّ تعدٍّ وسوء استعمال أيّ مبيد يُمكن أن ينعكس سلباً على المنتجات الزراعية كما على الصحّة والبيئة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ غياب الرقابة في الأسواق اللبنانية جعل الحصول على المبيدات أمراً في غاية السهولة، خصوصاً أنها تباع على أنواعها من دون الأخذ في الاعتبار مخاطرها وإرشادات استخدامها. فالتجّار همّهم تحقيق أرباح بأقلّ تكلفة ممكنة، وهذا ما أدّى إلى وقوع الكارثة في ملف سلامة الغذاء بنحو خطير ومخيف.
ويوضح قاسم أن "الاستخدام المكثّف للمبيدات يفرض على المزارع في ما بعد استخداماً أكبر لها. كذلك يجري الأمر في الاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية. فالتعرّض المستمرّ لهذا المبيد يؤدي إلى مقاومة وعدم فاعليته، ممّا يدفع المزارع إلى استخدام مبيدات أقوى أو ممنوعة، لها أثرها الأخطر على البيئة والصحّة".
يختلف الأثر الصحيّ حسب نوع المبيد وطريقة استخدامه، ولكن كأضرار صحيّة أساسية يمكن تلخيصها بالآتي:
* التأثير على الإنجاب
* التأثير على الهرمونات
* التسبّب بالسرطان
* التسبّب بتشوّهات خَلقيّة
* خطر الإصابة بأمراض تنفسيّة
* خطر الإصابة بمشكلات جلديّة ومعويّة.
ويستشهد قاسم ببعض التحذيرات التي صدرت عن الاتحاد الأوروبي لبعض المنتجات اللبنانية، والتي تكشف فوضى الاستخدام العشوائي لبعض المبيدات الممنوعة خلال عامَي 2021 و2022.
- رفض العنب من لبنان في عام 2022 نتيجة احتوائه على الكلوربيريفوس، والمونوكروتوفوس.
- رفض ورق العنب المخلّل في قبرص في عام 2022 بسبب احتوائه على سايبرمثرين، وأسيتامرييد، ولامبدا سيهالوثرين، وثيامثوكسام، وإندوكساكارب، أزوكسيسي ووفلوتريافول.
- تجاوز الحدّ المسموح به لمخلّفات المبيدات في ورق العنب المحلّي في عام 2021، واكتُشفت 10 أنواع من بقايا هذه المخلّفات.
- رفض بذور الشبت المجفّفة من لبنان إلى هولندا في عام 2021 بسبب احتوائها على موادّ ممنوعة مثل البروبيكونازول والموادّ غير المرخّصة مثل الكلوربيريفوس والبروفينوفوس والتريازوفوس.
- وجود الكلوربيريفوس في اليانسون المطحون في لبنان في عام 2021.
أكثر من نصف العيّنات تحتوي على مبيدات ممنوعة
وفي تحقيق صحافيّ سابق حول المبيدات الزراعية، بلغ عدد العيّنات 46 عيّنة، 25 منها للبندورة، و21 منها للخيار، فُحصت في مختبرات RBML المعتمدة من وزارة الزراعة. والنتيجة؟
تبيّن أنّ 76 في المئة من هذه العيّنات ملوّثة بالمبيدات، و11 عيّنة فقط من أصل 46 (24 في المئة) لا تحتوي على متبقّيات. بعد مقارنة النتائج بلائحة مركّبات المبيدات الممنوعة الصادرة عن وزارة الزراعة بنسختها الأخيرة في نيسان 2021، تبيّن أنّ أكثر من نصف العيّنات تحتوي على متبقّيات لمبيدات ممنوعة في الأسواق اللبنانية، من بينها ما مُنع قبل سنوات. كذلك تبيّن أنّ خُمس العيّنات تحتوي على نسب عالية من المبيدات تتجاوز الحدّ الأعلى المسموح به، بحسب المعايير المعتمدة من قبل مؤسّسة المقاييس والمواصفات اللبنانية. وفي بحث علميّ تبيّن أن الأكيدنيا أيضاً وُجدت عليها مبيدات ممنوعة.
دليل آخر على عمق أزمة الاستعمال العشوائي للمبيدات هو تقارير عن وجود مبيدات ممنوعة في منطقة جنوب الليطاني في المياه السطحيّة و الجوفيّة.
إزاء كلّ ما قيل، تبقى الفضائح الغذائية التي تخرج إلى العلن بين الحين والآخر ناقوس خطر لا يتعدّى "البطولات الكلامية" فيما تبقى الفوضى وغياب الرقابة البطل الأقوى على أرض الواقع. وحدها أرقام الإصابات السرطانية دليل على الكارثة الصحّية التي تتحكم باللبنانيين، والمتّهمون كثر!