يرتفع منسوب التوتر والقلق من احتدام الحرب على غزة وانتقالها إلى لبنان. لم تُلغ هذه الفرضية بل طُرحت كسيناريو قابل للحدوث في حال تغيّرت قواعد الحرب. الكل ينتظر ما ستؤول إليه الأيام المقبلة، هل تتوسع رقعة الحرب لتطال لبنان وهل تنفذ إسرائيل تهديدها "بإعادة لبنان إلى العصر الحجري"؟
سارعت الحكومة اللبنانية إلى عقد اجتماع للبحث في خطة طوارئ أعدتها الأمم المتحدة لمواكبة التطورات الراهنة في لبنان خدماتياً وإنسانياً وصحياً واجتماعياً، إضافة إلى دعم البلديات والدفاع المدني في هذه الظروف.
هذا المشهد أعاد إلى الأذهان الخطط السابقة التي وضعتها الحكومة وآخرها جائحة كورونا والتي أظهرت فشلاً في تطبيقها على أرض الواقع في بعض قطاعاتها وبنودها. فالوعود تختلف عن سياسة الأمر الواقع، وما نسعى إليه يختلف تماماً عما يمكن تطبيقه حرفياً، وما يواجه القطاع الصحي اليوم مختلف تماماً عما كان في حرب تموز وحتى في جائحة كورونا.
صحيح أن الوقاية خير من ألف علاج وأن الخطة الاستباقية تعتبر درعاً وقائياً لأي طارئ، لكن كيف تترجم خطة الطوارئ الصحية وسط عجز مالي فاضح؟ وكيف يمكن إجراء عمليات جراحية ومعالجة الحالات الطارئة بطاقم طبي نصفه مهاجر وبمستلزمات طبية محدودة وفي مستشفيات ترفض استقبال المرضى في حالة السلم بسبب التغطية المالية؟
بالأمس، أصدرت وزارة الصحة مذكّرة للمستشفيات اللبنانية، لتذكيرها "بالإجراءات الواجب اتخاذها في حال تطور الأوضاع في الجنوب"، وركّزت على "التزام الوزارة بتغطية جرحى الحرب اللبنانيين ضمن آلية محددة وتعرفات جديدة وضعتها الوزارة".
لكن السؤال الأهم من أين لوزارة الصحة تأمين الأموال وهي عاجزة عن تحمل أعباء الفاتورة الدوائية الشهرية، وصرخة المرضى نتيجة انقطاع الأدوية؟ وماذا لو فشل المعنيون في تأمين التمويل الذي يعولون عليه من الدول العربية والأجنبية؟
الخطوة الأولى كانت في التوجه إلى الدول المجاورة بحثاً عن دعم مالي، حيث قام رئيسا لجنة الشؤون الخارجية النيابية فادي علامة ولجنة الصحة النيابية بلال عبدالله، بسلسلة اتصالات وزيارات للعديد من السفارات والمنظمات الدولية أولاها الكويت والسعودية، بهدف مساعدة لبنان بالأدوية عموماً، لا سيما أدوية مرض السرطان، والأمراض المستعصية خصوصاً.
إذاً، لدينا "خطة الشحادة" من الدول لتأمين التمويل، ولكن ماذا لو رفضت الدول مساعدة لبنان، ولقد قالتها سابقاً، وقد تلعب السياسة دوراً في تقديم المساعدات من عدمها.
بعد أن سلمت منظمة الصحة العالمية الدفعة الأولى من الأدوية إلى لبنان، تستكمل وزارة الصحة توزيع المساعدات الطبية لعلاج جرحى الحرب للمستشفيات المستجيبة. والسؤال الذي يطاردنا اليوم، ماذا لو تكرّر سيناريو غزة في ضرب المستشفيات في لبنان؟ ماذا لو كان وقع الضربات عنيفاً وأسفر عن مئات الجرحى والحالات الطارئة؟
ينطلق رئيس "الهيئة الوطنية الصحية" الدكتور اسماعيل سكرية من خطة الوزارة لتفنيد بنودها ومدى قابلية تطبيقها شارحاً لـ"النهار" أننا "لسنا بصدد التشكيك بقدر ما نتحدث عن مدى قابليتها للتنفيذ، ولكن في حال اندلاع الحرب مع لبنان ستكشف هذه الخطة مدى عجزها بسرعة لأسباب عديدة أهمها:
* الأزمة الاقتصادية التي طالت المستشفيات والأطباء
* الوضع الاستشفائي الحكومي المرهق بشكل عام بعد سنوات طويلة على المجالس الإدارية المعينة سياسياً، وبعد الانهيار الاقتصادي خاصة مستشفى الحريري الذي يعتبر من أكبر المستشفيات الحكومية. وكاد المستشفى أن يتوقف عن العمل نتيجة وضعه المزري وغياب الصيانة وفرض الشروط لإدخال المريض إلى الطوارئ واشتراط الأطباء في الحصول على مستحقاتهم بسبب وضعهم الصعب، والتشبيح والوساطة للموافقة على دخول المستشفى، بالإضافة إلى نقص أعمال طبية ضرورية خاصة في العناية الفائقة والعمليات... وبالتالي يحتاج المستشفى إلى دعم مادي لتأهيل المستشفى وسد النواقص ودفع أتعاب الأطباء.
* استنفار الأطباء لأي عمل طبي: في ظل الوضع الصحي الصعب، أتساءل عن مدى قدرة الأطباء والجراحين على اجراء عمليات جراحية طارئة من دون مقابل أو على نفقة وزارة الصحة. ونعرف جيداً أن المستشفيات ترفض مرضى الوزارة في حالة السلم، وهذا الواقع سيزداد صعوبة وتعقيداً في حالة الحرب.
ويذّكر سكرية بأنه منذ سنوات وهو يُحذر من انحدار القطاع الصحي وقد يلامس الانهيار بعد قراءة المستندات والوثائق والفساد الذي ينخر هذا القطاع. وبالفعل وصلنا إلى الانهيار الاقتصادي في المستشفيات الخاصة والحكومية والوضع الاقتصادي للقطاع الصحي مرهق واستنزاف الطاقم الطبي بعد هجرة حوالى 2000 طبيب بالإضافة إلى هجرة 2000 من الطاقم التمريضي.
ويسأل سكرية كيف يمكن ترجمة الخطة بنجاح ونحن نعلم عجز الوزارة مالياً خصوصاً عجزها عن تغطية نسبة كبيرة من الأدوية خاصة أدوية السرطان والمستلزمات الطبية وتغطية الأعمال الجراحية في زمن الهدوء، فكيف ستواجه طوفان المتطلبات الصحية في زمن الحرب؟
ويشير إلى أن الجسم الطبي بشكل عام لديه حساباته المادية، أقله تأمين الحد الأدنى من الاكتفاء للطبيب وعائلته. في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، وفي احتمال تدفق اعداد إصابات كبيرة، يختلف الوضع تماماً عما كان عليه في الحروب السابقة وعما يجري في غزة.
ماذا عن أقسى تجربة خاضتها المستشفيات في الحروب السابقة وكانت على القطاع الصحي؟ يؤكد سكرية أن "الأصعب كانت حرب 75-76 بسبب العدد الكبير للإصابات والجرحى الذين كانوا يتوافدون إلى المستشفيات، حيث كان يصل على سبيل المثال 70-80 جريحاً إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. هذا الضغط والثقل يتطلب عملاً وجهداً كبيرين، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن الوضع الاقتصادي كان جيداً مقارنة بالوضع الحالي.
كذلك شكّلت حرب تموز في العام 2006 ضغطاً في بعض المناطق حيث تركز القصف على الضاحية الجنوبية وبعلبك والجنوب، إلا أن الهيئات الصحية الإسلامية ساهمت في تخفيف الإرباك والضغط على المستشفيات، أما اليوم فإن المشكلة كبيرة لأنه حتى لو ساهمت مختلف الجهات لن تتمكن من المساهمة والمساعدة إلا نسبياً.
برأي سكرية لا يمكن التنبؤ بما قد يحصل في حال اندلاع الحرب في لبنان، وكل شيء يتوقف على نوع العملية العسكرية وحجم الإصابات والقدرة الاستيعابية للمستشفيات. باختصار، خطة طوارئ والبحث عن تمويل من سفارات الخارج "ما بيمشي الحال".
وهذا ما شدّد عليه سابقاً نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون في حديثه لـ"النهار" بالقول "لا توجد جهوزية مطلقة لأنه إذا قُصفت المستشفيات عندها لا تنفع الجهوزية أو خطة الطوارئ في شيء. إذن، كل شيء يتوقف على درجة ومستوى العمليات العسكرية التي ستحصل، ونعمل وفق الخبرة المكتسبة في حرب تموز 2006 منطلقين من سيناريو قد يكون أسوأ ممّا شهدناه في حرب تموز، والعمل على هذا الأساس من خلال عدد الجرحى والقتلى المتوقّع، وكمية احتياط الأدوية التي يجب توفرها في المستشفيات، بالإضافة إلى المستلزمات الطبية. وفي الخلاصة الأحداث ستفرض نفسها على أرض الواقع".