في مستشفى الشيخ راغب حرب في الجنوب تلملم هدى شور والدة ريماس وتالين وليان جروحها الكثيرة بوجع وصمت. هناك من على سرير المستشفى داخل غرفتها في العناية الفائقة تحاول مواجهة ندوبها التي خلفتها إسرائيل في جسدها. وحدها تعرف بشاعة الجريمة التي دفعت ثمنها فتياتها الثلاث. في الجهة اليمنى من جسدها شظايا كثيرة، العشرات والعشرات التي توغلت في داخل لحمها والتي أزيلت بعد عمليات جراحية عديدة.
في أعماقها وجع من نوع آخر، جرح مفتوح وعميق، لن يستطيع كل الأطباء ترميمه أو تضميده، جرح الفقدان والخسارة والذنب الذي يُحاكي كلمة واحدة "لو". لم يكن أحد يتوقع هذه الجريمة التي استهدفت الفراشات الثلاث مع جدتهن في الجنوب، فعلتها إسرائيل وما من شيء بإمكانه أن يمحو جريمتها.
هل كان أسهل على هدى لو فقدت ذاكرتها كي لا تتألم؟ أسأل نفسي هذا السؤال بعد أن سمحتُ لنفسي أن أعيش وجعها. كيف لهذه الأم أن تكابر على جراحها الجسدية والنفسية، كيف لها أن تُسكت هذا الأنين الذي يضجّ في داخلها؟ كيف لها أن تنسى المشاهد التي كانت شاهدة عليها بتفاصيلها الموجعة والموحشة؟
نتميز بالصمود كلبنانيين، وقد تكون قصة هدى واحدة من قصص الصمود التي يتحدثون عنها منذ القدم. من شاهدها في مسرح الجريمة يعرف جيداً أن نجاتها كانت بمثابة أعجوبة، وحصلت فعلاً! استطاعت هدى أن تنجو وتخطت مرحلة الخطر بعد أن كانت حالتها دقيقة جداً، تتعافى شيئاً فشيئاً بعد أن خضعت لعدة عمليات لإزالة الكرات المعدنية الصغيرة الموجودة في الصاروخ الذي انفجر داخل السيارة.
لا يُخفي خالها الصحافي سمير أيوب في حديثه لـ"النهار" أنها "قطعت شوطاً كبيراً وحالتها تتحسن يوماً بعد يوم، بوادر إيجابية بعد أن كانت حالتها دقيقة ومستقرة. لقد تعرضت الجهة اليمنى من جسدها وظهرها إلى اختراق شظايا كثيرة، ولكن لم تتسبب أي واحدة منها يأي كسور أو إعاقة أو خلل. تحتاج إلى بعض الوقت بعد أن خضعت لعمليات لإزالتها، وقد تحتاج إلى إجراء عملية أخرى لتنظيف الجروح لأن نوع الشظايا يفرض إزالة قطعة لحم من مكانها".
تبقى هذه الجروح الجسدية محمولة مقارنة بألمها النفسي، ومع ذلك، يؤكد أيوب أنها تردد هذه العبارة "الله جابهم والله أخدهم " هنّ ملائكة عند الله. تحاول أن تصبّر نفسها على هذه الخسارة، وتعرف أن ما جرى لا مهرب منه "شي وبدو يصير".
بالعودة إلى تلك اللحظات المشؤومة من القصف، يوضح خالها أنها "لم تستوعب بداية ما جرى، ظنت أولاً أنها تعرضت لحادث سير، شهدت ومضة قبل أن تنفجر السيارة بعد سقوط الصاروخ في وسطها، وسمعت صراخ أولادها. ومن بعدها بدأت تستوعب حقيقة ما جرى، وعندما وصلتُ إليها وسحبتها من السيارة أدركت فظاعة ما حدث".
وكما يقول أيوب "جميعنا نشعر بالذنب في مكان ما، نطرح أسئلة تبدأ بماذا لو؟ ومع ذلك تحاول هدى أن تصبر على وجعها وخسارتها لتتخطى هذه المرحلة الصعبة".
وفي حال بقيت حالتها تتحسن، يتوقع أن تُنقل من العناية الفائقة إلى غرفة عادية في المستشفى. ستبقى تخضع لتنظيف جروحها الخارجية التي ارتسمت على جسدها، وستحاول جاهدةً أن تضمد جرحها النازف في داخلها... ومعها نعيش رهبة الوجع الصامت مرة جديدة!