لم تكن تغريدة رئيس لجنة الصحة النيابية بلال عبدلله مجرّد تهنئة للإنجاز الطبي الذي أحرزه مستشفى رفيق الحريري الحكومي بإجراء عملية قسطلة نوعية مع تركيب صمام دون جراحة، بقدر ما كانت رسالة واضحة أنّ المستشفيات الحكومية قادرة أن تكون رافداً مهمّاً لكلّ نظامنا الصحي، جنباً إلى جنب مع المستشفيات الخاصة.
في المقابل، يواجه المستشفى نفسه مشاكل عديدة داخلية تتناول حقوق الموظفين ورواتبهم، حيث أعلن "مستخدمو ومتعاقدو وأجراء مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي"، إنهم "بدأوا صباح اليوم إضرابهم المفتوح، المتزامن مع التوقف التام عن العمل والإقفال العام للأقسام الذي أعلنوا عنه يوم أمس، والذي أتى نتيجة للضغوط والظروف القاسية التي يمرون بها ، بسبب لا مبالاة المعنيين وتأخّرهم عن القيام بواجباتهم التنفيذية والإجرائية للنهوض بالمستشفى، بعد الترهّل الذي حلّ به نتيجة للسياسات الخاطئة".
هذه صورة مصغّرة لواقع مستشفى حكومي يواجه تحدّيات جمّة، في حين يأمل المسؤولون أن تتحوّل المستشفيات الحكومية بديلاً صحياً يمكن الاتّكال عليها لتلبية احتياجات شريحة كبيرة من اللبنانيين.
هذا التناقض بين المشاكل والتطلعات يطرح أسئلة جدية حول مدى قدرة المستشفيات الحكومية على تخطّي واقعها ومشاكلها المادية وسوء الإدارة ونقص الموظفين والإدارة الصحيحة لتكون على المستوى المطلوب.
وفق تقرير نشرته "الدولية للمعلومات" في شباط 2023 حول المستشفيات الحكومية في لبنان، يبلغ عدد المؤسّسات العامّة التي تتولّى عمل المستشفيات الحكوميّة والعاملة فعليّاً لغاية نهاية العام 2022، 33 مستشفى، ويبلغ عدد العاملين فيها من مستخدمين ومتعاقدين وأجرّاء بشكل رسمي 3829 موظفاً".
في حين أشار التقرير إلى أنّ "تلك المستشفيات تعاني من شغور على صعيد الكوادر البشرية، حيث قدّرت نسبة الشغور بنحو 55.8%، إذ يبلغ العدد الكامل للملاك 8546 موظفاً".
ومن جهة ثانية، تبيّن للدّولية للمعلومات، أنّ عدداً من المستشفيات الحكوميّة تستعين بكوادر بشريّة إضافيّة، من خلال عقود خدمات، أو إشغال، أو بأشكال أخرى، ليبلغ عددها في مجموع المستشفيات الحكوميّة نحو 680 شخصاً إضافياً.
مع الإشارة إلى أنّ موازنة العام 2022 قد لحظت 15 ملياراً لا غير مساهمات لتفعيل المستشفيات الحكوميّة، و لا تكفي الواردات الذاتيّة لتأمين التوازن المالي فيها.
وإزاء هذا الواقع، نعود إلى النقطة الأساس هل ستنجح الحكومة في تفعيل المستشفيات الحكومية حتى تتمكن من أن تكون رديفاً فعالاً للمستشفيات الخاصة؟
يعترف النائب بلال عبد الله في حديث لـ"النهار" أن وزير الصحة رفع خطة إلى مجلس النواب تحاكي واقع الأزمة حيث قدمت اعتماداً مقبولاً. في المقابل، تحظى وزارة الصحة بأولوية قصوى في الموازنة ما يقارب 30 ألف مليار ليرة، وهذا يعني أننا قادرون على رفع التعرفة 50 ضعفاً عمّا هي عليه اليوم. وهذه الخطة ستساعد على التخفيف من الأعباء الاستشفائية التي يتكبد المواطنون دفعها على نفقتهم الخاصة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المبلغ يقتصر على الاستشفاء ولا يشمل تغطية الأمراض السرطانية والمستعصية."
ومع ذلك، يشدّد عبدلله على أننا "لن نعود إلى مرحلة ما قبل الأزمة وإنّما العودة إلى التغطية بالمستوى المقبول في المستشفيات الخاصة والرسمية. وعليه، سترفع الوزارة السقوف المالية للمستشفيات الحكومية بمقدار 4 أضعاف. كذلك سعى وزير الصحة حتى قبل الموازنة إلى التركيز على المستشفيات الحكومية على صعيدين:
الأول: افتتاح أقسام للأمراض المستعصية والسرطانية وتجهيزها.
الثاني: أقسام غسيل الكلى وزيادة التجهيزات في مستشفيات أخرى.
ما يعني أنّ "الاستراتيجية الصحية بإطارها العلمي الطبي ممتازة وتحاكي كلّ المعايير العالمية، ولكنّ هذا الموضوع بحاجة إلى تمويل". وبالتالي يؤكّد عبدلله أنّه "بمجرد إقرار الموازنة الصحية بشكلها المطروح نكون قطعنا شوطاً جيداً في مجال الأمن الصحي للمواطن".
أمّا المشكلة الأخرى التي تواجه المستشفيات الحكومية تتمثل بالقلق الذي يعيشه الموظفون وفق عبدلله، بالإضافة إلى أنّ نصف العاملين في هذه المستشفيات تمّ توظيفهم على شكل مقدمي خدمات ولا يتمتعون بكامل الحقوق الوظيفية، ناهيك عن المجالس الإدارية التي انتهت صلاحيتها ونحن في حاجة إلى مجالس جديدة وهذا الأمر يحتاج إلى رئيس جمهورية وحكومة، وربما قد نحتاج إلى تعديل القانون الذي ينظّم المستشفيات الحكومية.
دعوة إلى الدولة للاستيراد المباشر
من جهته، يرى النائب الياس جرادة أننا "نظام اقتصادي حرّ ولكن عندما يستدعي الأمر تدخل الدولة فهذا يعني أننا في أزمة تستوجب دعم فئات معينة. ولكن هذا الدعم لا يجب أن يكون خاضعاً لأرباح السوق والشركات والمستوردين والتهريب، حيث تصبح الدولة شريكة في هذا الاستنزاف للخزينة اللبنانية. وعليه، يجب البحث عن دعم يكون فعالاً وعلى سبيل المثال اذا كانت كلفة دواء معين في المنشأ تبلغ 200 دولار والشركة المستوردة تسعّره بقيمة 2000 دولار، يجب على الدولة استيراده بقيمته الأصلية وتسليمه مباشرة إلى المريض من خلال مستشفيات حكومية.
ونعرف جيداً أنّ المستشفيات الحكومية بحاجة إلى تعزيز إداري والطاقم الطبي والمادي، لأنّ ما نتكبّده على الفاتورة المتعلقة بالدعم تذهب إلى الشركات والتجار والتهريب وإلى فئة صغيرة من الناس المقتدرة. في حين لو يذهب الدعم مباشرة من خلال تعزيز دور المستشفيات الحكومية وإنشاء مراكز للأمراض المستعصية يمكن حلّ ثغرة كبيرة ومساعدة شريحة كبيرة من اللبنانيين.
كذلك يشير جرادة إلى أهمية تخفيض الفاتورة الدوائية من خلال الاستيراد المباشر من قبل الدولة للأدوية المدعومة، وبذلك يخفّف من الأرباح الطائلة للشركات والمستوردين.
وتأكيداً على ما يجري، يستشهد جرادة ببعض الأمثلة، يقول إنّه "كان هناك حقنة للعين تسعّر بحوالى 2400 دولار، أمّا اليوم فنتيجة المضاربة تعرض الشركة حقنتين بمبلغ 600 دولار والثالثة تكون مجانية. هذا مثال واحد لحجم الأرباح التي كانت تحققها الشركات، علماً أنّ هذه الإبرة كانت مدعومة في فترة معينة من وزارة الصحة في كلّ لبنان.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الأدوية المستعصية والسرطانية التي يصل سعرها إلى 2000 و3000 دولار، في حين أن سعرها في الخارج في حدود 200 إلى 300 دولار.
ومن الواقع المأزوم للأدوية إلى واقع المستشفيات الحكومية، يؤكّد جرادة أنّنا "في حاجة إلى تحديث هذه المستشفيات وتعزيز الشفافية الإدارية والدعم المادّي للمستشفى وللطواقم الطبية عنده من خلال إعطاء تحفيزات للعاملين فيه، مثل تأمين الطبابة لهم ولأفراد عائلاتهم في حال توافرت الخدمة الصحية في المستشفى.
وعليه، وفق تقدير جرادة نحتاج إلى كلفة تتراوح بين 50 و60 مليون دولار كفيلة في تحديث هذه المستشفيات وتجهيزها وتأمين محفّزات للموظفين والعاملين وضمان استمراريتها لأنّها قادرة أن تقدّم خدمات صحية بالمستوى المطلوب. ولم يعد خافياً على أحد أنّ الأزمة الاقتصادية لعبت دوراً كبيراً في استباحة الأمن الصحّي، ولكن هناك عوامل كثيرة ساهمت في هذه الظاهرة منها سوء إدارة، انعدام الرؤية والتخطيط، ضغوط شركات وغياب رقابة.