على مدار 4 سنوات، رفضت إدارة الغذاء والدواء الأميركية طلبات شركة "نورالينك" للموافقة على إجراء التجارب البشرية لزراعة الشريحة الدماغية. ولكن في أيار 2023، أعطت الـFDA الضوء الأخضر لمباشرة هذه التجارب التي شكّلت نافذة أمل للمرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية وإصابات خطيرة في الحبل الشوكي، في حين اعتبرت خطراً داهماً لما تحمله من مخاطر صحية ومعلوماتية وأمنية.
ومن بين المخاوف التي أبدتها آنذاك الـFDA تلك المتعلقة بالسلامة الرئيسية لبطاريات الليثيوم المستخدمة، وإمكانية انتقال الأسلاك الصغيرة المزروعة في الدماغ إلى مناطق أخرى، وما إذا كان يمكن إزالة الشريحة دون إتلاف أنسجة الدماغ.
وبرغم من ذلك، في 30 كانون الثاني، أعلن مؤسس شركة "نورالينك" إيلون ماسك عبر حسابه على منصة "إكس" عن نجاح أول عملية زراعة شريحة دماغية على الإنسان وأن المريض يتعافى بشكل جيد"، مضيفاً أن "النتائج الأولية أظهرت اكتشافاً واعداً لزيادة عمل الخلايا العصبية".
هذه الخطوة التي اعتبرها البعض ثورة طبية وأملاً لمرضى ينتظرون بفارغ الصبر أي حل طبي لاسترجاع حركتهم المشلولة، تحمل في طياتها مخاوف كثيرة حول مدى مأمونيتها ومدى مشروعيتها، وهل ستكون في خدمة البشرية أم هلاكها؟
لم تخفِ وكالة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة "اليونسكو" قلقها إزاء هذه الشريحة حيث اعتبرت في وقت سابق "إن التكنولوجيا العصبية مثل الشرائح التي يعمل عليها إيلون ماسك، إذا تُركت بدون تنظيم سوف تؤدي إلى إمكانيات جديدة لمراقبة العقل البشري والتلاعب به من خلال تقنية التصوير العصبي. كما يُمكن أن يتم استخدامها في عملية تغيير الشخصية".
من جهة أخرى، كشف ماسك في حديث سابق له أن الغرض من زرع تلك الشرائح التي تحمل تطبيقات طبية، هو علاج العديد من الأمراض، مثل إصابات الحبل الشوكي الشديدة والاضطرابات العصبية. وقال: "إنها رقائق لا تشكل أي خطر على صحة الإنسان".
في المقابل، كشفت التجارب التي أجريت على القرود صورة مخالفة لما يُروّج له. وبعد الاطلاع على السجلات، تقدمت مجموعة مدافعة عن حقوق الحيوانات بشكوى قانونية بعد تأكدها من قتل 15 قرداً من أصل 23 تلقوا رقائق دماغية من قبل شركة "نورالينك". وتبيّن أن بعضها عانى من نزيف وتورم في الدماغ ومضاعفات صحية أخرى دفعت العاملين إلى اللجوء إلى "القتل الرحيم".
وأعرب بعض الباحثين عن قلقهم بشأن نقص الشفافية المحيطة بزراعة الشريحة الدماغية، التي صُمّمت للسماح لذوي الإصابات البالغة بإدارة الأجهزة بوساطة الأفكار فقط.
تقول العالمة في علم الأعصاب في المركز الطبي الجامعي في هولندا، ورئيسة الجمعية الدولية لواجهات الدماغ والحاسوب (BCI)، ماريسكا فانستينسل، "أتمنى أن يتمكن الباحثون في مجال العلوم العصبية من إظهار أن العملية آمنة وفعّالة في قياس إشارات الدماغ، ليس فقط على المدى القصير وإنما على المدى الطويل أيضاً"، وفق ما نشرت مجلة Nature الطبية.
ولكن لدى بعض العلماء مخاوف وعلامات استفهام عديدة، أثار بعضها مهندس الأعصاب في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، تيم دينيسون، بالقول إن "هناك إحباطاً بسبب نقص المعلومات التفصيليّة. لم يتمّ التأكيد حتى الآن أنّ التجربة قد بدأت، باستثناء تغريدة ماسك الوحيدة. المصدر الرئيسي للمعلومات العامة حول التجربة هو كتيب الدراسة الذي يدعو الأشخاص إلى المشاركة فيها. ومع ذلك، يفتقر الأمر إلى التفاصيل مثل مكان إجراء الزرع والنتائج الدقيقة التي ستقيمها التجربة".
كذلك لم يتمّ تسجيل هذه التجربة على موقع التجربة السريرية في المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة، علماً بأن جامعات عديدة تطلب إلى الباحثين تسجيل التجربة وبروتوكولها في هذا الموقع؛ وبعض المجلات الطبية تفرض تسجيل مثل هذه التجارب كشرط لنشر النتائج، وذلك وفقًا للمبادئ الأخلاقية المصمّمة لحماية الأفراد الذين يتطوعون في التجارب السريرية.
ويشرح دينيسون بأن المهم اليوم "مراقبة التأثير الفوري للجهاز وعدم تسجيل جلطات أو نزيف، أو تلف في الأوعية الدموية، أو أيّ شيء آخر من هذا القبيل، ناهيك بأهمية فحص العدوى ومتابعة طويلة الأمد للتحقق من استمرار زراعة الجهاز".
وفق كتيّب الدراسة من شركة "نيورالينك"، ستتم متابعة المتطوّعين لمدّة خمس سنوات. وبالتالي، ستقيّم التجربة وظيفة الجهاز، حيث سيستخدم المتطوّعون الجهاز على الأقلّ مرتين في الأسبوع للتحكّم بجهاز كمبيوتر، وتقديم ردود فعل حول التجربة.
وعليه، بعد بدء التجارب البشرية، أصبحت سلامة المتطوعين ورفاهيتهم سؤالاً مهماً. صحيح أنّ التجربة استحوذت على موافقة إدارة الدواء والغذاء الأميركية بعد أن كانت قد رفضت طلب الشركة سابقاً، إلا أن بعض الباحثين غير راضين على عدم إدراج هذه التجربة على موقع "ClinicalTrials.gov".
تعدّ الشفافية مهمّة أيضًا للأشخاص الذين تهدف مؤسسات BCI إلى مساعدتهم. أصيب إيان بوركهارت، أحد مؤسّسي تحالف رواد BCI، ومقره في كولومبوس بولاية أوهايو، بالشلل بعد كسر رقبته في حادث غوص، وقضى 7.5 سنوات مع مجموعة بلاك روك المزروعة في دماغه. إنّه متحمّس لما قد تحقّقه شركة Neuralink. لكنّه يقول: "يمكنهم أن يفعلوا ما هو أفضل بكثير مع كمية المعلومات التي ينشرونها، بدلاً من جعل الجميع يتكهّنون بها. خاصّة بالنسبة للمرضى الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن يتمكن هذا النوع من التكنولوجيا من تحسين حياتهم".
هل نحن أمام اختراق ثوري أو تجربة محفوفة بالمخاطر ومجهولة التداعيات على المدى الطويل؟
يتخوف الخبير في التحوّل الرقمي وأمن المعلومات رولان أبي نجم من هذه الخطوة التي تحمل في طياتها مخاطر صحية ومعلوماتية كبيرة. ويُشكّل نجاح زراعة شريحة دماغية لدى مريض مخاوف عديدة ومشروعة منها يتعلق بالصحة وأخرى مرتبطة بمأمونية الاستخدام والتكنولوجيا والقوانين التي تُشرع وتنظم صحة استخدامها.
من الناحية الطبية، يوضح أبي نجم أنه في عالم الطب نعرف تماماً أنه في عملية الزرع (سواء قضيب حديدي - أو ورك اصطناعي أو عضو طبيعي) قد يتفاعل بشكل ايجابي أو سلبي مع جسم الإنسان الذي قد يرفضه أحياناً. وبما أن الشريحة تزرع في الدماغ ممكن أن تحمل مخاطر جدية منها إصابة الدماغ خصوصاً أن الشريحة المغروسة تحتاج إلى طاقة وموصولة إلى "بلوتوث".
ونتذكر جيداً النصائح التي كانت توجه إلى مستخدمي الهواتف وإبعاد الهواتف الذكية عنا خصوصاً الرأس لأنها تبث موجات صوتية، فكيف إذا كانت هذه الأخيرة موجودة اليوم داخل الدماغ؟ كما يمكن أن تؤثر هذه الشريحة على أنسجة الدماغ أو تتسبب بنزيف دماغي، بالإضافة إلى أننا نجهل الضرر على المدى الطويل الذي قد تُسببه هذه الشريحة عند الشخص، نظراً لغياب الدراسات في هذا المجال.
هذا ليس كل شيء، نسمع كثيراً وفق ما يقول أبي نجم عن "توقف الحاسوب أو الهاتف بشكل مفاجئ أو حدوث خلل مفاجئ يؤدي إلى توقفه أو إطفائه أو حتى تعطيل برنامج أو إعطاء معلومات خاطئة نتيجة اختراقه، لكن هناك أسئلة مفتوحة حول حدوث هذه المخاطر داخل دماغ الشخص وما يمكن أن تحدثه وخطورة ذلك على الشخص.
في مقلب آخر، تعمل هذه الشريحة من خلال نقل البيانات عبر "البلوتوث" وتشحن لاسلكياً، وبالتالي كيف تنقل هذه البيانات وأين هي خصوصية الشخص في الاحتفاظ بأفكاره الخاصة؟ ومن الأسئلة المفتوحة أيضاً: "هل هناك إمكانية خرق هذه الشريحة الموصولة والسيطرة على أفكار الانسان والتحكم بدماغه، ومن يضمن عدم حدوث مثل هذا الاحتمال؟".
أما الإشكالية الأخرى التي يجب تسليط الضوء عليها فتتمثّل بأن الشخص الذي يخوض هذه التجربة يكون بموافقته الشخصية. لكن ما أغفله البعض خلفيات الموافقة والتي غالباً ما تكون نتيجة يأس المريض وتمسكه بأي أمل معلق أو أي أفق قد يغير واقعه. وبالتالي إن الشخص الذي يوافق على خوض هذه التجربة يكون متمسكاً بأمل في تحسين حياته، لذلك لا يكون قراره نابعاً عن قناعة بل عن يأس في محاولة أي شيء لمعاودة المشي أو النطق أو البصر.
ويركز أبي نجم على نقطة أخرى بالأهمية نفسها تتمحور حول عدم وجود أي قانون عالمي ينظم كمرجعية هذا القطاع (الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني)، ولا يمكن محاسبة الجرم في ظل غياب المادة الجرمية. وعليه، في حال حدوث أي خلل أو مشكلة في هذا القطاع، من هي الجهة التي يمكن أن يلجأ إليها الشخص المتضرر لتقديم شكوى أو المطالبة بحقه أو بالضرر الحاصل؟
في العودة إلى الإعلان لنجاح الشريحة الدماغية في رأس مريض يعاني من شلل، وما سبقه من تصاريح وعرض ترويجي لهذه التجارب، كان واضحاً أن التركيز الأساسي تمحور حول الفائدة الطبية وما ستقدمه من حلول لحالات طبية تعاني من اضطرابات عصبية أو إصابات في الحبل الشوكي.
لكن ما الذي يضمن أن يبقى استخدام هذه الشريحة الدماغية محصوراً بحالات طبية صعبة؟
هذا حقيقة ما يتخوف منه خبراء يعتبرون أن أي تكنولوجيا في الطب تفتح المجال أمام الناس للبحث في استخدامها في مجالات أخرى مختلفة. على سبيل المثال، شكّلت التكنولوجيا وسيلة فعالة للأشخاص الذين فقدوا أطرافهم (السفلية أو العلوية)، والتي ساعدتهم على معاودة المشي أو مواصلة حياتهم بشكل أسهل. في حين أن هذه التكنولوجيا فتحت الباب أمام أشخاص آخرين والاستفادة منها بهدف زيادة أطراف على أطرافهم الموجودة أصلاً للحصول على 4 أيدٍ مثلاً والتمتع بقوة إضافية وطاقة أكبر، وفق أبي نجم.
الخوف اليوم أن يُترجم ما كنا نراه في الأفلام على أرض الواقع وتصبح المشاهد واقعية وحقيقية.