"يقترب لبنان من احتلال الرقم واحد في العالم في الإصابة بأورام المثانة التي ترتبط بشكل أساسي بموضوع الدخان". لم يُحرّك تصريح وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض ساكناً عند أحد، لا الحكومة ولا الوزارات المعنية. قالها الأبيض بالفم الملآن ومن دون مواربة "إن الأرقام التي لدينا تظهر أننا مقبلون على مستقبل صعب بما يتعلق بالسرطان"، وتعتبر سرطانات الثدي والبروستات والرئة والمثانة الأنواع الأكثر انتشاراً في لبنان مع تسجيل أعلى نسبة وفيات في سرطان الرئة.
ماذا فعلت الحكومة تجاه هذا الواقع المخيف؟ لا شيء حتى الآن، وبالاستناد إلى التجارب السابقة يمكن القول إنها لن تفعل شيئاً في المستقبل. الإحصاءات الأخيرة لحالات السرطان المسجلة في لبنان تعود إلى العام 2016، توقف العدّاد من وقتها، ولا استحداث للأرقام منذ 2016 حتى العام 2023.
قد لا تبدو هذه التفاصيل مهمة لكنها أساسية في توثيق هذا المرض في لبنان والبحث في أسبابه وانتشاره المتواصل بغية العمل لإيجاد حلول مستدامة وفعالة للوقاية منه أو الحدّ من هذه الزيادة المطّردة.
لم يكن المسح الأخير الذي أجرته منظمة الصحة العالمية في لبنان مطمئناً، حيث أظهر أن واحداً من ثلاثة تلامذة يعاني من الوزن الزائد أو السمنة، كما يمارس 14 في المئة فقط من الأطفال الرياضة لمدة 60 دقيقة في اليوم، ويشارك 17 في المئة بالتربية البدنية في المدرسة، وأن أقل من خمسين في المئة من التلامذة يتلقون تعليمًا حول الغذاء الصحي.
ليست الأرقام بحدّ ذاتها ما يثير القلق، لنبدو واقعيين ومنطقيين لأن ما تعكسه هذه النسب يفتح الباب واسعاً أمام الخطر الأكبر المرتبط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بخطر الإصابة بالسرطان. ومع ذلك، يتغلغل العدو الصامت بشكل أكبر في مجتمعنا اللبناني، يجذب الكبار كما الصغار سواء بالنرجيلة أو الدخان أو التدخين الإلكتروني. اختلفت الوسائل المشجعة والترويجية والنتيجة واحدة "مجتمع مدخن" يدفع الثمن بصحته و"لوبي قوي" يمنع زيادة الضريبة على مختلف أنواع الدخان.
وما كشفه الطلاب في المسح الأخير للمنظمة يظهر حقيقة مخيفة يتغاضى عنها كثيرون، حيث قال الطلاب إنهم جربوا التدخين والكحول قبل بلوغهم أربعة عشر عاماً، فيما يستخدم ثلث الطلاب منتجات التبغ غير السجائر ويستخدم خمسة في المئة منهم نوعاً جديداً من التبغ يعرف بإسم المدواخ.
إضافة إلى ذلك يظهر المسح أن اثني عشر في المئة من الطلاب يشعرون بالوحدة في غالبية الأوقات أو دائمًا، و13.5% فكروا بجدية في الانتحار و9.7% حاولوا الانتحار بالفعل مرة واحدة أو أكثر.
مهلاً، هل نعي فعلاً ماذا تعني كل هذه الاعترافات؟ ما الذي يدفع طالب إلى التدخين بعمر صغير؟ والأخطر ما الذي يدفعه إلى التفكير بالانتحار؟ نحتاج إلى جلسة مصارحة علنية، المشكلة متعاقبة وعوامل متعددة تؤثر سلباً على الواقع الصحي والسرطاني في لبنان، التدخين، الكحول، الضغوط النفسية، نمط حياة غير صحي، جميعها مسؤولة عن زيادة مخاطر الخبيث وتضخم انتشار أورامه المختلفة.
ليس علينا أن نتبع سياسة "النعامة"، الاحتجاج والاستنكار وحده لا يجدي نفعاً، نحتاج إلى خطة فعالة تنخرط فيها جهات عديدة لوقف هذه الزيادة المطّردة، خصوصاً بعد توقّع منظمة الصحة العالمية بارتفاع عدد حالات الإصابة بالسرطان إلى أكثر من 35 مليون حالة بحلول العام 2050. المستقبل لا يبشر بالخير، فنحن نتحدث عن ارتفاع يبلغ 77 في المئة مقارنة بالأعداد المسجلة في العام 2022.
وإزاء هذا الواقع، ما هو وضع لبنان مع السرطان؟
ينطلق رئيس اللجنة المكلفة بمتابعة تطبيق الخطة الوطنية لمكافحة السرطان الدكتور عرفات طفيلي من تصريح منظمة الصحة ويدرجه في خانة التوقعات، حيث تقدّر المنظمة أن حالات الإصابة بالسرطان أعلى بنسبة 10 إلى 15 في المئة، وهذه النسبة مبنية على تقدير وليس على إحصاء دقيق.
ومع ذلك ترتبط الإصابة بالسرطان بأسباب عدة أهمها تقدم الناس في العمر، التدخين، التلوث والسمنة... ونتيجة ذلك جاء توقع المنظمة في زيادة الحالات خصوصاً بعد الكشف عن نسبة التدخين في لبنان التي تعتبر من الأعلى في العالم.
وفي العودة إلى آخر إحصاء لمنظمة الصحة العالمية، احتلّ لبنان المرتبة الأولى في منطقة غرب آسيا بنسبة 240 لكل 100 ألف نسمة. في حين تقدّر الإحصاءات الأخيرة تسجيل نحو 19 ألف حالة جديدة بالسرطان في لبنان.
ومع ذلك، يعترف طفيلي عند سؤاله عن الإحصاءات الأخيرة أننا "نفتقر إلى الأرقام الدقيقة، وأن الإحصاء الأخير في وزارة الصحة يعود إلى العام 2016، وبالتالي لا نملك معلومات حديثة عن عدد حالات السرطان في لبنان. ويعود سبب غياب الأرقام إلى انتشار جائحة كورونا ومن ثم الأزمة الاقتصادية حيث تركزت الجهود المبذولة على مواجهة الوباء. وعليه، تعمل الوزارة اليوم على تحديث هذه الأرقام وتوثيق الحالات للسنوات الأربع الماضية".
وانطلاقاً من مقولة "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، تحاول وزارة الصحة اليوم مواجهة خطر السرطان بإطلاق الخطة الوطنية لمكافحة السرطان في وزارة الصحة العامة، بالتعاون مع وزارة التربية الوطنية ومنظمة الصحة للتوعية حول مرض السرطان عبر تعزيز برنامج الصحة المدرسية.
على ماذا تعتمد هذه الخطة؟
يشرح الطفيلي أن "الخطة الوطنية لمكافحة السرطان التي انطلقت في 6 تموز 2023 تتضمن فصولاً عدة مقسمة إلى أهداف محددة لكل فصل، وتمتد هذه الخطة حتى عام 2028. وستعمل الوزارة في كل عام على تحقيق هدف من أهداف الفصول الخمسة لمكافحة السرطان وانتشاره في لبنان.
- الفصل الأول: استحداث البيانات والأرقام حول إصابات السرطان في لبنان
- الفصل الثاني: الوقاية والتشخيص المبكر.
- الفصل الثالث: العلاجات السرطانية والتي تشمل تحسين العلاجات وجودة التصوير وكل ما يتعلق بالتشخيص ومتابعة المرض.
- الفصل الرابع: العلاجات التلطيفية.
- الفصل الخامس: متابعة المرضى بعد السرطان (البحث في مشكلة التأمين- فتح حساب في البنك- العقم...).
على ماذا تعمل الوزارة اليوم؟ يشير رئيس اللجنة المكلفة بمتابعة تطبيق الخطة الوطنية لمكافحة السرطان إلى أن الوزارة أطلقت منذ يومين الحملة الوطنية للتوعية والتي تشمل التغذية، النشاط البدني والتدخين المسبب الأول للسرطان في بلدنا. وعليه، سيكون هناك حملة توعية للصفوف الأساسية للحديث عن أضرار التدخين وللتخفيف من هذه الظاهرة في مجتمعنا.
لذلك الأولوية اليوم تتمثل بمكافحة التبغ والتدخين، لننتقل بعدها إلى تحقيق أهداف الفصول الأخرى في الخطة.
إلى جانب العوامل المذكورة، يتحدث طفيلي عن التأخير في التشخيص ومراده الأزمة الاقتصادية حيث نشهد تأخيراً في استشارة الطبيب، بالإضافة إلى المراجعات الطبية التي باتت كل 6 أشهر في حين كان المريض يواظب على متابعة حالته كل 3 أشهر. وبالتالي نلاحظ انخفاضاً في المتابعة الروتينية للمريض نتيجة الأزمة المالية.
وإزاء التوقعات والمشهد الضبابي الذي يرافق اللبنانيين، هل تنجح خطة الوزارة في تقليص حالات السرطان أم سنكون على موعد مع حرب خبيثة وواقع صعب في السنوات المقبلة؟