يترقّب العالم نتائج التحقيقات بشأن فضيحة الدّم الملوّث الذي وقع ضحيّته نحو 30 ألف مواطن في المملكة المتحدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. فما قصّة أكبر كارثة علاجية في تاريخ هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية؟
كشفت التجارب الطبية التي أُجريت على أطفال في بريطانيا الحجم الحقيقي لهذه الكارثة التي استخدمت فيها منتجات الدم الملوثة، من خلال الوثائق التي اطّلعت عليها "بي بي سي نيوز". وتكشف هذه الوثائق عن عالم سريّ من الاختبارات السريرية غير الآمنة، التي شملت أطفالاً في المملكة المتحدة، حيث وضع الأطباء أهداف البحث كأولوية بدلاً من احتياجات المرضى.
واستمرت هذه الاختبارات على مدى أكثر من 15 عاماً، وشارك فيها مئات الأشخاص، أصيب معظمهم جراءها بالتهاب الكبد الوبائي "سي" وفيروس نقص المناعة البشرية.
وقال أحد المرضى الناجين لـ"بي بي سي" إنه عومل كـ"فأر تجارب" في المختبرات.
وشملت التجارب أطفالاً يعانون من اضطرابات تخثّر الدم، لم توافق أسرهم في كثير من الأحيان على مشاركتهم. وتوفي الأطفال الذين كانوا مسجّلين للمشاركة في تلك التجارب بأغلبيّتهم.
حكاية لي
شُخِّص لي نجل دينيس بالهيموفيليا في الشهر السادس من العمر. وفي العام 1985، عندما كان في الرابعة من عمره فقط، ثبتت إصابته بفيروس نقص المناعة المكتسبة، بعد تلقّي منتجات الدم الملوثة، وتوفي عن عمر ناهز الـ10 سنوات.
وبسبب "وصمة العار" المرتبطة بفيروس نقص المناعة في ذلك الوقت، كانت حياة الطفل صعبة، إذ تحدثت تقارير صحافية عن كونه طفلاً غير مرغوب فيه بالمدرسة. وتجنّب الآباء الآخرون الأسرةَ، بل أخبر البعض دينيس بأن ابنها يجب أن يموت. وأجبرت العائلة على الانتقال من منزلها في نيلسي إلى منطقة مختلفة.
كان سوريش فاجيلا وشقيقه برافول من مرضى الهيموفيليا. وعندما عُرض عليهما علاج جديد في العام 1970، قيل لهما إنه "سيحسّن حياتهما بشكل كبير"، من دون أن يكون لديهما أيّ فكرة عن التأثير الحقيقيّ لذلك العلاج. وكانت المفاجأة الصادمة في العام 1985 بعد تشخيص سوريش بإصابته بفيروس نقص المناعة المكتسبة.
يعود سوريش بذاكرته إلى الماضي: "قالوا، اذهب فقط إلى المنزل. أخبر عائلتك. لديك ثلاثة أشهر فقط. جهّز نفسك".
وخلال حديثه مع لجنة التحقيقات، أشار سوريش إلى وصمة العار التي واجهها: "الأمر أسوأ في المجتمع الهندي حيث يُنظر إلى المرض على أنه كارما (أي عقوبة بسبب ما فعلته في حياة سابقة)".
ومن بين 1200 شخص مصاب بفيروس نقص المناعة عن طريق الدم الملوث، توفّي بالفعل ما يقارب الـ1000 شخص، بمن في ذلك برافول، الذي توفي في العام 1995 عن عمر ناهز الـ33 عاماً.
أم لستة أطفال
وفي حالة مماثلة، خضعت دينا بيكوك، وهي أم لستة أطفال من وارينغتون، لعمليات نقل دم في أوائل العام 1980 بعد ولادة أوّل طفلين لها.
على مدى 35 عاماً، لم تستطع فهم سبب شعورها بالإرهاق والتوعّك والاكتئاب باستمرار. لم يتم تشخيص إصابتها بالتهاب الكبد الوبائيّ من النوع "سي" إلا في العام 2017.
بالإضافة إلى غضبها من فكرة أنّها يمكن أن تموت، فإن شعوراً فظيعاً ينتابها لاحتمال أن يكون أطفالها أيضاً قد أصيبوا.
أما مارك وارد، فكان يبلغ من العمر 14 عاماً فقط في العام 1984، عندما أخبره طبيب في مستشفى رويال فري في هامبستيد بلندن بأنه مصاب بفيروس نقص المناعة.
يتذكّر جيداً قول الطبيب له: "إذا كنت محظوظاً، فلديك نحو عامين فقط. لكن قد لا تعيش طويلاً بما يكفي للتخرج في المدرسة".
ويتساءل مارك: "حين تعلم هذا في سنّ الرابعة عشرة، فماذا تفعل؟"، ويستدرك قائلاً: "أنت تستمر في تعليمك، ولكن حياتك كلّها تنقلب رأساً على عقب، لأنهم قالوا لي: هذا كلّ شيء، أنت ستموت بسبب الإيدز".
ويؤكّد مارك أن صحته تتدهور بسرعة، وقد خسِر الكثير من الأصدقاء، ويضيف: "يبتعد عنّي الأشخاص بمعدل شخصين في الأسبوع. كلّ بضعة أيام أفقد صديقاً، وشبح الموت يقترب مني. سعيي لتحقيق العدالة هو ما يمنحني القوة الآن".
كذلك أصيب والد كارلي، كيث فرانسيس، بالتهاب الكبد الوبائي من نوع "سي"، بسبب منتجات الدم الملوثة حينها، وأقدم على الانتحار في العام 2014.
تقول ابنته كارلي من لايتون بازارد إنّه كان لديه "عدم ثقة كاملة في النظام" بعد إصابته.
كان لدى كيث شقيقان مصابان أيضاً بالهيموفيليا، وتلقّيا الدم الملوّث مثل كيث، فأصيب أحدهما بالتهاب الكبد الوبائيّ من نوع "سي"، فيما أصيب الآخر بفيروس نقص المناعة، ثمّ توفّي بسبب إصابته.