النهار

الدكتورة ندى جبادو الحائزة على جائزة لوريال - اليونسكو في مجال العلوم لـ"النهار": جائزتي الكبرى تكون في إيجاد علاجات لكلّ أنواع سرطانات الدماغ
ليلي جرجس
المصدر: "النهار"
الدكتورة ندى جبادو الحائزة على جائزة لوريال - اليونسكو في مجال العلوم لـ"النهار": جائزتي الكبرى تكون في إيجاد علاجات لكلّ أنواع سرطانات الدماغ
الدكتورة ندى جبادو.
A+   A-
في أيار 2003، في مبنى صغير يُسمى PLACE TOULON في مونتريال تم فتح أول صندوق شحن يحتوي على أول ماصة وُضعت في المختبر الموقّت. بداية متواضعة للطبيبة اللبنانية ندى جبادو التي استطاعت بفضل أبحاثها ودراساتها الطويلة أن ترسم مسار البحث عن علاجات فعاّلة في سرطان الدماغ عند الأطفال.
 
كانت انطلاقة صغيرة لحلم كبير، خطوة أولى في مشوار ألف ميل جعل مختبرها اليوم من أهم المختبرات في دراسة سرطان الدماغ. كانت الرغبة التي تنمو في داخلها منذ طفولتها تُحفّزها على التمسك بأمنيتها "سأصبح طبيبة"، لم يكن عمرها قد تخطى السبع سنوات.
 
ومن طفلة تحلم أن تصبح طبيبة إلى عالمة استثنائية جعلتها تقف في أيار 2024 على خشبة المسرح لتحصد جائزة لوريال – اليونسكو الدولية للنساء في مجال العلوم لعام 2024 عن أميركا الشمالية.
 
على وقع القصف والدمار، حزمت عائلة جبادو أمتعتها هرباً من الحرب الأهلية، كانت جبادو ما زالت طفلة صغيرة. نشأت في فرنسا ودرست الطبّ في جامعاتها حيث تخصصت في أورام الأطفال في جامعة باريس، ثمّ أكملت الدكتوراه في علم المناعة من معهد ماري كوري في باريس، وزمالة ما بعد الدكتوراه في الكيمياء الحيوية في جامعة ماكغيل.
 
كان الطبّ يستهويها وكان الشغف في إيجاد الإجابات يجعلها تغرق أكثر فأكثر. كانت على يقين أنّ خلف كلّ مرض لغزاً يمكن تفكيكه برّوية وحكمة في محاولة منها لفهم الغموض في بعض الأمراض. كانت جبادو تخوض معاركها الطبية في فرنسا قبل أن يخفق قلبها لحبّ حياتها وتكتب الفصل الأخير في فرنسا لتبدأ صفحة جديدة في كندا.
 
هناك في معهد أبحاث مركز الصحة التابع لجامعة ماكغيل، أنشأت جبادو برنامجها البحثي في أورام الدماغ لدى الأطفال. في ذلك المختبر، انغمست جبادو في تحليل العيوب الوراثية المسؤولة عن مدى عدوانية الورم السرطاني لدى الأطفال. لكن كيف انتقلت من ممارسة الطبّ إلى تحليله في أروقة المختبر؟
 
تعترف خلال حديثها لـ"النهار" أنّه لم يكن أمامها الكثير من الخيارات في كندا، وجدت أنّ اختصاصها محدود ولن تتمكّن من فعل الكثير، فكان لا بدّ من اتخاذ القرار الذي يتناسب مع البلد الذي ستتواجد فيه في سنواتها المقبلة".
 
 
أرادت أن تستثمر خبراتها الطبية في معالجة سرطان الدماغ للبحث عن أفق جديد، تؤكّد: "قررتُ أن أبدأ من جديد متسلحةً بالخبرة والعزيمة، وبما أنّ المستشفى الذي سأعمل فيه متخصّص في الدماغ وخاصة في سرطان الدماغ عند الأطفال. كان ذلك حافزاً كافياً لأشقّ طريقي في هذا المجال، وبالفعل أنا ممتنّة جداً لإقدامي على السير في مجال الأبحاث في سرطان الدماغ عند الأطفال لأنّه ببساطة نجحنا في إسدال الستار عن كثير من الأمور كنا نجهلها سابقاً، واكتشفنا حقائق كثيرة ساعدتنا في التشخيص وفي مساعدة الأطفال والمراهقين المرضى في رحلة علاجهم".
 
ببساطة كانت جبادو كمن يتعلّم لغة جديدة حيث عليك أولاً اكتشاف الحرف قبل اكتسابه والنجاح في تركيب جملة والتحدّث بها بطلاقة. هكذا تمكّنت جبادو من تعلّم لغة الدماغ عند الأطفال والغوص في تفاصيله المعقدة بحثاً عن علاجات فعالة قادرة على زيادة نسب شفائه.
 
وكما تقول جبادو إنه "بقدر ما كان القرار صعباً إلا أنه كان مهماً في وصولنا إلى بعض الإجابات الأساسية. لا يمكن معالجة سرطان الدماغ عند الأطفال من دون فهمه بطريقة صحيحة. كانت الأبحاث ضرورية جداً، صحيح أنّ الطريق الذي سلكته كان صعباً خصوصاً أنني لم أكن امتلك الخبرة الكافية في هذا المجال، ولكن أثمرت كل الجهود والمساعي في فهم أكبر، والأهم في إيجاد الدعم والتعاون في أكثر من 20 دولة، كما أنّ العمل الجماعي يساعد في تسريع المسار وإحداث الفرق وهذا ما قمنا به حقيقةً".
 
يمكن القول اليوم أنّ جبادو وفريقها وجدوا الطريق الذي يساعد في فهم سرطان الدماغ الذي يعدّ من السرطانات التي يصعب علاجها، لقد نجحت في فهم تكوّن كلّ خلية وكيف استطاع السرطان أن يُعيد تكوّنه ليُشكّل نفسه.
 
 
وتشدد جبادو على أنّ "سرطان الدماغ متعدّد الأنواع، بعض هذه السرطانات يكون فيها خلل واحد ويتوفّر العلاج لها، ونجحنا في اعتماد علاجات خاصة لهذا النوع. ولكن هناك أنواعاً أخرى من السرطانات ومنها "الهستون" السرطاني، ورغم اكتشافنا التحوّرات الأولية له إلا أننا ما زلنا بعيدين بعض الشيء في إيجاد علاج له. ويعتبر ذلك صعباً جداً، لأننا فهمنا ما يجري في هذا السرطان لكننا عاجزون بعد عن إيجاد علاج له".
 
ومع ذلك، ترفض جبادو أن تتحدث بلغة الجزم، لأنّها ببساطة متفائلة في إيجاد علاج في المستقبل رغم تعذر وجوده في الوقت الحاضر. لا تُخفي أنّ العامل الإيجابي الذي تنظر إليه دائماً "أنّ هناك أشخاصاً يتعالجون من سرطان الدماغ إلا أنّ سرطان "الهستون" ما زال يُشكّل تحدياً جدياً في علم الأورام، وما زلنا في أول الطريق".
 
وعن الأسباب والعوامل المسؤولة عن سرطان "الهستون"، تشير جبادو إلى أنه "لا توجد أسباب مسؤولة عن الإصابة به بل هناك فقط سوء الحظ. لا تلعب التغذية أو التدخين أو القيام بأيّ شيء خاطئ أي دور في زيادة خطر الإصابة، كل ما في الأمر سوء الحظ لدى بعض الأشخاص. كما اكتشفنا أن هذا السرطان يتكوّن عادة عند الأجنّة داخل أرحام الأمّهات، لذلك نعمل هذه الفترة تحديداً لتفادي تحوّل بعض الأخطاء خلال التكوين لتصبح سرطاناً".
 
عملت جبادو في الجراحة كما في الطب، لكنّ نصيحة أحد الأطباء لها جعلها تفكر بطريقة مختلفة، وبالفعل حاولت البحث عن وسيلة جديدة تساعد الناس أكثر فأكثر ووجدتها بالأبحاث. تقول إنّه "أحياناً ننجح في مساعدة المرضى وأحياناً أخرى نفشل، وعندما نعجز عن ذلك يكون ثقل هذا الشعور صعباً جداً. منذ أسبوع كنتُ أتحدث إلى والدَي أحد الأطفال المصابين بسرطان الدماغ وأقول لهم "لا يمكننا فعل شيء" إنها أصعب اللحظات التي يمكن أن يختبرها شخص. لذلك الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تساعدني في تخطّي هذا الشعور هي فهم أكبر لهذا النوع من السرطان، حتى أقف يوماً أمام عائلات المرضى وأقول لهم "لا تقلقوا لأنّ العلاج موجود".
 
ما تطمح إليه جبادو وضعته نصب عينيها، تريد إيجاد علاج لسرطانات الدماغ التي لا علاج لها، كل ما تسعى إليه هو إيجاد أجوبة لهذا السرطان وللأطفال المرضى الذين ينتظرون هذا الأمل المعلّق. هذه جائزتها الكبرى التي يمكن أن تحصدها، تقول أنّ "الجوائز التي حصلت عليها تؤكّد لي أنني على الطريق الصحيح للوصول إلى وجهتي، وهي بمثابة اعتراف بمدى فعالية ونجاح الأبحاث وما نقوم به لتحقيق ما نطمح إليه، لذلك أعتبرها كمحفّز للمضي قدماً. تساعدني هذه الجوائز على تسليط الضوء على سرطان الدماغ أكثر فأكثر وتشجيع الناس على العمل معي لوضع النقاط على الحروف في كلّ ما يتعلق بسرطان الدماغ عند الأطفال".
 
 
تؤمن جبادو أنّ العمل الدؤوب يأتي بثماره، تعود إلى الوراء حيث كانت الناس تموت من الجوع والالتهابات، واليوم غالبية البلدان تغلبت على الالتهابات بعد ايجاد علاجات لها وأصبحت لدينا أجوبة كثيرة في شأنها. وكذلك السرطان الذي كان مرضاً قاتلاً وصعباً وتحوّل اليوم بفضل الأبحاث المتطورة والعلاجات الحديثة إلى تسجيل نسب شفاء عالية في بعض أنواعه وإطالة عمر المريض وتحوّله إلى مرض مزمن يُشبه الأمراض المزمنة الأخرى.
 
وتستطرد حديثها بتسليط الضوء على أبرز الأبحاث في علاج سرطان الدماغ، حيث أثبتت العلاجات الموجّهة والمناعية لبعض أنواع السرطانات الدماغية فعاليتها وأعطت نتائج ايجابية جداً. ففي السنوات العشر الماضية شهد الطبّ تطوراً في هذا الموضوع حتى في مسألة التشخيص والعلاج حيث لم نعد بحاجة إلى أخذ عينة من الدماغ لمعرفة نوع السرطان، بل يلجأ الأطباء إلى أخذ السائل من دون جراحة لتحديد نوعه واعطاء العلاج المناسب له.
 
لذلك لا تستبعد جبادو أن يخطو العلم خطوة كبيرة في علاج السرطان في المستقبل، حيث سيتمكّن العلماء من تحديد العلاج الخاص لكلّ نوع سرطان، وترى أن "الوقت معنا وليس ضدنا، وسنجد أجوبة كثيرة لبعض الأنواع السرطانات التي ما زالت صعبة العلاج".
 
تحمل لبنان في قلبها وتفتخر بلبنانيتها، ومع ذلك تجد صعوبة في العمل في لبنان لسبب وجيه كما تقول "أنا كطبيبة لا يمكنني أن أشخّص المرض في حين يعجز الناس عن تلقّي العلاج بسبب عدم قدرتهم على الدفع. ومع ذلك لن أتخلى عن بلدي وسأزوره كلّما سنحت لي الفرصة".
 
"ما لا يمكنني إنجازه اليوم سأقوم به غداً" بهذه الكلمات تنهي جبادو حديثها، ومعها نحمل الأمل الذي بثته فينا بأن الحلم مهما طال سيصبح حقيقة يوماً ما. في انتظار تحقيق حلم الانتصار على السرطان بشتى أنواعه!

اقرأ في النهار Premium