أسدلت الألعاب الأولمبية 2024 في باريس الستار على أرقامٍ قياسية جديدة ومواجهات مثيرة واتهامات وجدالات عدة. وبعيداً عن الاتهامات التي رافقت بعض اللاعبين في مختلف رياضاتهم، كان لافتاً التشكيك الحاصل في مسألة تحقيق رقم قياسيّ جديد في بعض أنواع الرياضات واعتبار ما جرى " غير ممكن بشرياً". حصل ذلك مع بطل السباحة الأولمبيّ "بان شونلي" في سباق الـ100 متر سباحة حرّة، بفارق 0.40 جزءاً من الثانية عن الرقم السابق، الذي سجّله في بطولة العالم بالدوحة في شباط الماضي.
ويُعيد هذا التشكيك، وإن لم يكن مستنداً إلى وقائع علميّة، إلى الواجهة السؤال حول ما هي حدود الاحتمال القصوى للجسم في الرياضة؟ ومتى يصل الجسم بقدراته الفيزيولوجية إلى خطوطه الحمر؟
الاستثمار في الجسد الرياضي
يقول الدكتور محمد ناصر الدين، الاختصاصي في الطب الرياضي وجراحة الإصابات الرياضية والعظام والمفاصل، من المركز الطبيّ في الجامعة الأميركية في بيروت، أن الهدف وراء "وضع رقم قياسيّ يكمن في تخطّيه وتحقيق أرقام جديدة. وبحسب التجارب السابقة، يؤكّد جسم الإنسان أنه قادر على تحقيق أرقام جديدة وكسر الرقم السابق. ويعود ذلك إلى تعزيز العلم في الرياضة، والاستثمار بالقدرات الرياضية والبدنية في سنّ مبكرة".
في العودة إلى حملة التشكيك في مهارة تحقيق رقم جديد في السباحة، يُذكَر قول "بان شونلي" "نهضت بالكثير من التمارين وتدريبات التحمل لتعزيز قوتي. لقد اعتمدنا أيضاً نظاماً علمياً للمراقبة والتحليل تحت الماء لمراجعة أسلوبنا حتى نتمكن من التدريب بشكل أفضل وأكثر فاعلية"، في حين نشر المدرب والمعلق الأوسترالي بريت هوك على تطبيق "إنستغرام" أنه "من غير الممكن بشرياً تحقيق ذلك" (رقم السباحة لمسافة مئة متر الذي حققه شونلي)، وأن الأداء الذي قدمه بان "لا يمكن أن يحدث في الحياة الحقيقية".
في هذا السياق، يشرح ناصر الدين بأن هناك أشخاصاً لديهم قدرات أعلى من غيرهم، وبعض الخصائص يمكن أن تزيد من احتمال تحقيق نجاح أكبر في الأداء الرياضي، مثل الطول، والعِرق، والبنية الجسدية. على سبيل المثال، كثير من العدّائين الأفارقة الناجحين ينسبون إنجازاتهم إلى خصائص فيزيولوجية محدّدة، مثل زيادة سعة الرئتين وقوة تدفّق الدم. كما يجب أن نعرف أنه كلّما كبر جسم الإنسان الرياضي كبرت معه الكتلة العضلية، وبالتالي حقق نتائج رياضيّة أفضل.
وعن تكسير أرقام قياسية سابقة، يوجد تفسيران منطقيّان وفق ناصر الدين:
1- التمرين المستمرّ: يزيد من حجم الألياف العضليّة، ويحقق تناغمًا بين الجهد العقلي والبدني.
2- تحضير المشاركين في سنّ مبكرة: يساهم في زيادة احتمال تحقيق الربح.
ثقافة اعتماد الرياضة على العلم
من المؤسف أن البلدان النامية تفتقر إلى الوعي بأهمية الاستثمار في القدرات البدنية خلال مرحلة ما قبل البلوغ.
عادةً، تتشكّل الكتلة العضلية والعظمية ما بين سن الـ12 والـ15، إذ تعتبر هذه المرحلة أساسية في بناء القدرات الرياضية، فيما تتأخر البلدان النامية في إعداد الأفراد حتى الـ16 عامًا حين تكون الكتلة العضلية والعظمية قد تكوّنت وتشكّلت.
ويتحدث ناصر الدين عن نقطة أخرى مهمّة تتمثل بشيخوخة العضلات التي تبدأ بعد عمر الخامسة والعشرين. وبالتالي، نادراً ما نشاهد رياضيين يواصلون مشاركاتهم في المسابقات الرياضية في عمر متقدّم، لا سيّما في رياضات القوى البدنية، لأنّ العضلات تبدأ بخسارة الألياف، وتواجه شيخوختها.
زاد الإقبال خلال السنوات الأخيرة على الماراثونات، التي تتميّز بضرورة اجتياز مسافات طويلة. ويعكف الباحثون والعلماء على فهم الكيفيّة التي يتمكّن بها جسم بشريّ من اجتياز ظروف تعتبر غاية في الصّعوبة.
يتجاوز الرقم القياسي العالمي لاستكمال الماراثون العادي حالياً الساعتين بقليل، بينما يرجّح أن يتمكن أحدهم في المستقبل من كسر حاجز الساعتين، في حين يؤكّد الطبّ أن الجسم البشريّ سيتوقّف عند حدّه الأقصى.
صحيح أن التدريب والقدرة الذهنية والجسدية تؤدي دوراً في صقل المهارات الرياضيّة وتحقيق إنجازات مدهشة، لكن لجسم الإنسان حدوده التي لا يمكن تخطيها.
وفي هذا السياق، حاول باحثون ضبط العوامل الفيزيائية والبيولوجية التي تعتمد عليها السرعة القصوى للحيوانات، التي ما زالت تحقق أرقاماً خياليّة مقارنة بالأداء البشري، ونشروا الدراسة في دروية "مجلة علم الأحياء النظري"، فخلصوا إلى أن السّرعات القصوى لا تعتمد فقط على الحجم، ولكن على التركيب الجسدي، مثل عدد الأرجل، وحركة العمود الفقري، بالإضافة إلى الوزن والمرونة.
تكوين مختلف
في قراءة علمية للأجسام، لا يخفى على أحد أن التكوين الفيزيولوجي للرجل يختلف عن المرأة. ويشدد ناصر الدين على أننا "نعلم جيداً أن الرياضة تعني الحضور الذهني والتدريب المكثف والمتواصل والعلاج الفيزيائي واتباع نظام غذائيّ معيّن".
نعرف أن الكتلة العضلية عند الرجل أكبر من تلك الموجودة عند المرأة، كما أن حجم الجسم وكثافة العظم أكبر مقارنة بجسم المرأة. مثلاً، تتعرض المرأة الرياضية إلى الإصابة بقطع الرباط الصليبيّ أكثر من الرجل. في المقابل، يحتوي جسم المرأة على دهون أكثر من الرجل.
في عالم الأرقام، نجد اختلافاً في الأرقام بين ما يحققه الرجال مقارنة بما تحققه النساء في السباحة والركض وكرة القدم وكرة السلة وغيرها. ويعود ذلك إلى العوامل الفيزيولوجية، حيث يتمتع الرجل بكتلة عضليّة وعظميّة أكبر، وبكتلة دهنية أقلّ، وبحجم أكبر من المرأة.
أما بالنسبة إلى النساء، فيجب أن تكون التغذية الرياضيّة جزءًا من نمط حياة الرياضية أثناء تدريبها، لأن الاعتماد على الرياضة فقط من دون اتباع نظام غذائيّ مناسب يمكن أن يؤدي إلى مشاكل مثل انقطاع الدورة الشهرية وهشاشة العظم والكسور الناتجة عن الإجهاد.
نتيجة لذلك، يعتبر موضوع الرياضة حساساً، وهذا ما يدفع بالدول المتطوّرة إلى وضع خطة للتدريب منذ الطفولة من خلال بناء كتلة عضلية وعظمية قادرة على أن تحقق في المستقبل أرقاماً قياسية. ويؤدي التدريب إلى الكمال. وتساعد التكنولوجيا على اكتساب مهارة وتقليل نسبة الأوكسجين وتحقيق نتائج أفضل.
ووفق ما يرى ناصر الدين فإنه "في الرياضات، التي لا تتطلّب إمكانيات عالية، مثل الركض، يحقق الأفارقة انتصارات مقارنة برياضات أخرى مثل السباحة، حيث تحتل الولايات المتحدة وأوستراليا الصدارة فيها. ويعود السبب إلى وجود منشآت وتدريبات كثيفة وتنشئة رياضيّة منذ الصغر".
قدرة الجسم القصوى
يعرف ناصر الدين جيداً أن قدرة الجسم لها حدود. ووفق رأيه "لا يمكن لأيّ شخص مهما تمرّن أن يسبق حيوان الفهد مثلاً، لأنّ مرونة الأوتار عند الفهد تجعله يقفز بسرعة أكبر من قدرة الإنسان الجسدية".
وعليه، انطلاقاً من المبدأ العلمي، يجب على الإنسان أن يعي أن هناك حدودًا يمكنه الوصول إليها ككائن بشريّ، لأن لدينا حدودًا فيزيولوجية لا يمكننا تجاوزها مهما تدرّبنا، ومهما بدأنا مبكرًا، وسيصل إلى حدود قصوى يتوقف عندها عاجلاً أم آجلاً.
يسعى الخبراء والمدربون إلى فهم العضلات أكثر، واستخدام التحفيز الكهربائي لتقوية العضلات وبناء أجيال لديها كتلة عضلية أكبر، ومع ذلك يقف العلم كما الطب أمام الحدود والخطوط الحمر لقدرة الجسم الطبيعية في الأداء الرياضي.
تختتم الألعاب الأولمبية 2024 في باريس بدروس جديدة حول حدود القدرة البشرية في الرياضة، موضحة بأن التقدم المذهل في الأداء الرياضي يمكن أن يكون نتيجة لتحسينات علمية وتقنية، لكننا نصل في النهاية إلى حدود فيزيولوجية لا يمكن تجاوزها. وبالرغم من الجهود المستمرّة لتحسين الأداء من خلال التدريب والتكنولوجيا، تظلّ القدرات البشرية محكومة بقوانين الطبيعة، التي تحدّد أقصى ما يمكن تحقيقه في الرياضة، ممّا يجعل السعي نحو الكمال الرياضي رحلة تتسم بالتحدّي والتفاؤل، ولكنها تبقى محدودة بالقوانين الطبيعية.