في الأسبوع الماضي، أعلنت "منظمة الصحة العالمية" مرض جدري القردة كحالة طوارئ صحية بعد انتشار حالات منه خارج قارة أفريقيا. في ضوء هذه المستجدات، نقف عند السؤال الأشد إثارة للقلق: هل نحن متجهون إلى جائحة أخرى مثل كوفيد_19؟
يعدّ جدري القردة أحدث تهديد عالمي للصحة العامة، مع الإشارة إلى أنه وصل إلى وضعية مُشابِهة قبل سنتين. ويعاني معظم المصابين به من أعراض مشابهة للأنفلونزا بالإضافة إلى الطفح الجلدي الذي يستمر لمدة تتراوح بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع. وتحدث مضاعفات خطيرة قد توصل إلى الوفاة لدى نسبة صغيرة من المصابين.
برغم إعلانه كحالة طوارئ، أكدت منظمة الصحة العالمية أن جدري القردة "ليس وباء كوفيد جديداً". علمياً، لا يمكن اعتبار تحول الفيروس إلى جائحة إلا بوجود عوامل أساسية، أولها حدوث إصابات مشخصة على مستوى العالم بعدد يكفي لتصنيفه وباءً. ويتمثل العامل الثاني بحدوث تحوّر وتبدل في تركيبة الفيروس أثناء تنقله بين البشر، بمعدل أعلى من المعتاد وفي عدد من المجتمعات، وفق ما نشر موقع The Conversation
بينما يُعتبر جدري القردة جدير بالاهتمام، إلا أنه منذ من منتصف تموز 2022، لم يستوفِ بوضوح شروط التحول إلى وضع الجائحة. والأهم من ذلك، أن الأدلة الحالية لا تُرجِّح وصول جدري القردة إلى مستوى الجائحة العالمية، حتى لو واصل انتشاره.
من المهم النظر في مدى انتقال العدوى في المجتمع. إذا مرض مئات الأشخاص بعد حضور حدث واحد، مثل حفل موسيقي أو مهرجان، يُنظر إلى ذلك في العادة بوصفه تفشياً. وحينما تبدأ العدوى في الانتشار بين عديدين ممن لم يشاركوا في ذلك الحدث، ولم يتواصلوا بشكل لصيق مع الإصابات الأولى، تصبح الحالة وباءً. وبمجرد أن يبدأ الانتشار الواسع والمستمر في المجتمع، تصعب تماماً السيطرة على الفيروس.
هل يمكنه أن يصبح كوفيد الثاني؟
الإجابة السريعة هي لا، لأن انتشار الفيروس وانتقاله أصعب بكثير من انتقال فيروس كوفيد _19. ولتوضيح الصورة أكثر عن ذلك الأمر، سنجري قراءة وبائية علمية مع الاختصاصي في الأمراض الجرثومية والمعدية الدكتور عبد الرحمن البزري.
ينطلق البرزي من الاختلافات التي تحول دون تحول فيروس جدري القردة إلى جائحة. وأولاً، ينتقل فيروس كوفيد_19 عبر التنفس والرذاذ والتنفس وينتشر بسرعة، فيما ينتقل جدري القردة بواسطة التماس الجلدي المباشر أو الاتصال الجنسي، ما يجعل انتشاره أقل من كورونا. وللسبب نفسه، الانتقال عبر التماس المباشر، ينتشر فيروس جدري القردة عند الأطفال نتيجة تماسهم المباشر مع بعضهم، أو عند الأشخاص الذين لديهم علاقات جنسية متعددة.
إن سلالة فيروس جدري القردة المنتشرة اليوم تختلف عن التي ظهرت قبل سنتين، وبالتالي، يشير البزري إلى أنه في العام 2022 انتشرت سلالة "كليد 2" من فيروس جدري القردة وتسببت بإصابات في أفريقيا. وحاضراً ، تنتشر السلالة 1 بعد أن مرت بتحورات كثيرة زادت من قدرتها على إحداث مرض شديد.
ويلفت البزري إلى أن إمكانية الوفاة بين إصابات هذه السلالة تصل إلى 10 في المئة.
نعرف جيداً أن كورونا هي عائلة فيروسات بحدّ ذاتها، وضمت 4 أنواع تستطيع إحداث التهابات عند الإنسان، ثم أضيفت إليها ثلاثة أنواع جديدة خلال السنوات العشرين الماضية، وقد تسبب آخرها، كوفيد_ 19، في أكبر جائحة في العالم، ونسميه أيضاً وباء كورونا.
ومع ذلك، يتحدث البزري عن فيروسات أخرى تنفسية تعود سنوياً وتُسبب إصابات عند فئات مختلفة، منها الأنفلونزا الموسمية وفيروس التنفس المخلوي Respiratory Syncytial Virus ، واختصاراً RSV، وتؤدي إلى إصابات شديدة عند الأطفال والأشخاص ضعيفي المناعة.
وبالتالي، إذا حدثت جائحة جديدة، فالأرجح أن تأتي من فيروس الأنفلونزا الذي يؤدي إلى وباء جديد مرة ثانية. ويعود السبب وفق البزري إلى أن الفيروسات قادرة على أن تتحور وتغيّر من تركيبتها، خصوصاً في ظل الاحتباس الحراري والتصحر واختلاط متزايد بالحيوانات والطيور واكتظاظ سكاني وسهولة التنقلات والسفر وحركة نزوح مستمرة وحروب ومجاعة وغيرها. ومن شأن تلك العوامل أن تؤدي إلى ازدياد انتشار الفيروسات وظهور أوبئة جديدة.
وعن الركائز الأساسية لتحول الفيروس إلى جائحة، يؤكد الاختصاصي في الأمراض المعدية والجرثومية أننا بحاجة إلى 3 شروط رئيسية:
لماذا تقلق الدول المتطورة من انتشار الفيروسات أكثر من دول أخرى؟
عادة ما تكشف أوبئة الفيروسات الوجه الخفيّ للقلق والخوف في الدول المتطورة، بالمقارنة مع الدول النامية. ويعوّل الخبراء الصحيون والعلماء على الدروس المستقاة من جائحة كورونا لاسيما في مسألة اختبار الاستجابة العالمية لحالات الطوارئ الصحية والتعلّم من عِبَرها.
وبرغم من التفاوت في التعامل واحتواء هذه الحالة الصحية الطارئة، فإنه من المفيد التوقف على سلوكيات الدول المتطورة في التعاطي مع أي تحذير وبائي.
يشدد البزري على أن "الدول المتطورة نجحت في معالجة معظم المشاكل الصحية، وبالتالي فإن نُظُمها الصحية تتأثر بالأوبئة الجديدة. وفي المقابل، تتعثر الدول النامية والفقيرة في تأمين الأساسيات اللازمة للصحة ومشاكلها. ومع ذلك، لا يُنكر أن بعض الدول النامية تميزت بأداء أفضل بكثير من بعض الدول المتطورة في الغرب.
صحيح أن الاختلافات واضحة وملموسة، إلا أن القلق واحد، والعبرة في التعلم من دروس الماضي، وآخرها جائحة كورونا. نعرف أن الميكروبات كائنات حية وتملك من الذكاء والتعاون المشترك في ما بينها، ما يهدد البشرية التي يتوجب عليها التعلم من الأخطاء والاستفادة من العبر.