تدفقت أشعة الشمس بعد الظهر فوق الحواجز الخشبية العالية إلى داخل الحلبة في عام 1963 بينما انقض الثور الشجاع على "المصارع" الأعزل الذي ليس سوى عالم متخصص في الجهاز العصبي.
لم تصل قرون الثور المهاجم إلى الرجل الواقف خلف الرداء الأحمر الثقيل، إذ ضغط العالِم خوسيه م. ر. ديلغادو على زر في جهاز إرسال لاسلكي صغير في يده، فتوقف الثور عن الحركة، ثم ضغط على زر آخر، فاستدار الثور مطيعًا إلى اليمين وهرول بعيدًا. لقد أطاع الثور أوامر يصدرها دماغه تحت تأثير تحفيز الكهرباء الداخلية العميقة للدماغ بوساطة إشارات راديوية تصل إلى مناطق معينة فيه.
لقد وصفت الكلمات السابقة شريطاً مصوراً ذاع صيته آنذاك عن "تجربة" طليعية في التأثير كهربائياً على عمل الدماغ، وقد امتدحتها "نيويورك تايمز" على صفحتها الأولى. وعلى الرغم من خلافات حولها، بما في ذلك وصفها كتمهيد للسيطرة على أدمغة البشر، يعتبرها كثيرون أنها بداية علم "التحفيز العميق للدماغ" Deep Brain Stimulation، واختصاراً "دي بي إس" DBS الذي تطوّر منذ ذلك باستمرار.
وفي العام 2005، رفض فريق من الأطباء الذين كتبوا تقريراً في مجلة Brain Research Reviews ، تترجم حرفياً بـ"مراجعات بحوث الدماغ" تجربة ديلغادو بإعتبارها "حيلة دعائية شهيرة".
بوابة الدماغ والتفاعل مع منصات الذكاء الاصطناعي
توضيحاً، تسري في الدماغ تدفقات كهربائية بصورة مستمرة، وتسير بين أعصاب الدماغ في سطحه وأعماقه، ويرافق سريانها تغييرات كثيرة، بعضها يتعلّق بإفراز مواد كيمياوية مؤثرة، تُسمّى "نواقل عصبية" Neurotransmitters. ويُرصد النشاط الكهربائي في الدماغ كمؤشر على عمله [كذلك إصابتة بأمراض]، خصوصاً في المناطق التي تتحكم بوظائف حركية ومعرفية وإدراكية وعاطفية وغيرها.
استكمالاً، لننتقل من زمن العالِم ديلجادو إلى زمن الحاضر في مختبر جامعة ديوك، حيث يعمل عالم الفيزياء والمتخصص في علوم الأعصاب ميغيل نيكوليليس. لقد اشتهر ذلك الاختصاصي البرازيلي بأعماله عن منصات التفاعل بين الدماغ والكمبيوتر Brain Computer Interface، واختصاراً "بي سي آي" BCI. تسمّى أيضاً "منصات الدماغ والآلة" Brain Machine Interface، واختصاراً "بي إم آي" BMI. ولنتذكر أن تلك المنصّات باتت إنجازاً علمياً مكرّساً يتوسّع بصورة متصاعدة، ويُعبّر عن أحد آفاق التفاعل بين دماغ الإنسان والذكاء الاصطناعي للحاسوب.
وفي أفق أعمال نيكوليليس المعمّقة السعي إلى صنع هيكل يتضمن "محاكاة" للجسد الإنساني بأكمله يُدار عبر "نموذج" للذكاء الاصطناعي عن الدماغ، ممّا قد يفتح أفقاً لعوالم مختلفة نوعياً في شفاء المشلولين، إذا ارتدوه. وفي مجال متّصل، يعمل نيكوليليس أيضاً على مساحة مبتكرة تهدف إلى جعل الذكاء الاصطناعي للكومبيوتر "وسيطاً" في التفاعل بين دماغ إنسانٍ وآخر.
بالطبع، قد تستحضر الكلمات السابقة إلى أذهان هواة السينما فيلم "آفاتار" Avatar لمخرج الخيال العلمي جيمس كاميرون في العام 2009. قدّم ذلك الشريط مشهدية عن دماغ لمشلول يدير جسداً لكائنات عاقلة كونية، بمعنى أنه "يتجسّد" فيه وفق معنى "آفاتار" باللغة الهندية القديمة. في المقابل، يصرّ نيكوليليس على أن تلك الأمور تصلح لرسم خيال فنيّ عن أعماله، لكنها لا تعبر عنها علمياً، مشدّداً على أولوية استعمال منصات الدماغ والكومبيوتر في إعادة الحركة إلى المشلولين.
تجربة ناجحة لم تخلُ من إشكاليات حادة
في العام 2004، استطاع علماء أميركيون زرع "شريحة" إلكترونية، أنتجتها شركة "سايبر كاينتكس" CyberKinetics، ثبت قسمها الخارجي على فروة الرأس، فيما تولّت جراحة دقيقة زرع عشرات من الأقطاب الكهربائية على القشرة الخارجية لدماغ ماثيو ناجل، الذي كان يعاني من شلل أطرافه الأربعة.
من الجهة الاخرى، اتصلت تلك الشريحة بحاسوب دُرِّب على التعرف على أنماط التدفقات الكهربائية العميقة في دماغ ناجل، وما يفكر فيه أثناء حدوث تلك التدفقات. بهذا، استطاع ناجل أن يكون أول شخص يستفيد من شريحة دماغية وأن يتحكّم بحاسوب، بما في ذلك كتابة أفكاره عليه، إضافة إلى التحكم بأشياء عادية من النوع الذي يستطيع الكومبيوتر أن يتحكّم بها، كالذراع الإلكترونية المتحركة مثلاً، من خلال التفكير وحده.
لقد لُقِّبَت تلك الشريحة باسم "بوابة الدماغ" Brain Gate بمصطلح يوحيّ بعملها.
وفي مسار الاعتراض، لم ترضَ "هيئة الغذاء والدواء" عن تجربة "بوابة الدماغ"، وأمرت بفصلها عن ناجل، الذي توفي لاحقاً في العام 2007.
وعبر مسار طويل من الدراسات والتجارب، تحققت نتائج واعدة، رافقها قلق وحذر من التلاعب بتلك التقنيات والمجموعات البشرية المعنية بها، إضافة إلى الآفاق المشحونة بالصراعات عن إمكانية التحكم بأدمغة البشر وعقولهم.
في المقابل، حرص باحثون كثيرون على إعطاء الأولوية المطلقة لتوفير فرصة للأشخاص المصابين بالشلل لاستعادة الحركة والتواصل مع الآخرين. كذلك تبذل أدمغة علميّة رصينة جهوداً هائلة هدفها التوسّع في توجيه هذه التكنولوجيا المتطورة إلى معالجة حالات عصبية ونفسية مستعصية، إضافة إلى مجموعة من الحالات المرضية الأخرى، بالاستناد خصوصاً إلى التحفيز العميق للدماغ. ماذا لو استطعنا، بدل الاكتفاء بتلقي أوامر من الدماغ، تحفيز وظائفه، أو بالأحرى زيادة طاقة المراكز المتخصّصة بوظائف الدماغ، وتدريبها كي تصبح أقوى، على غرار تدريب العضلات بالرياضة؟ هل تصبح تلك المراكز أقوى، وأشد ذكاءً، وأكثر تقدّماً في القدرات المعرفية والحركية والسلوكية والإدراكية وغيرها؟ إنها جزء من الأسئلة المتعلقة بعلم التحفيز العميق للدماغ.