تحظى الخفافيش بسمعة سيئة. وفي أغلب الأحيان، يرتبط اسم هذه الثدييات الطائرة بالوحوش مصّاصة الدماء أو بخطر داء الكلب. ولكن علماء البيئة يدركون، منذ فترة طويلة، أن الخفافيش تؤدي دوراً مهمّاً في الحفاظ على التوازن في النظم البيئية من خلال أكلّ الحشرات التي قد تخرج عن السيطرة لولاها.
يتناقض المشهد عن الفوائد البيئيّة والعلميّة لهذه الخفافيش، مع نشاهده من أفلام رعب وخيال تجعل من هذه الكائنات الحيوانية مصدراً للخوف والرعب والتشاؤم.
إذا غابت الخفافيش، عليك أن تخاف!
لكن، إن ما توصلت إليه دراسة حديثة، نُشرت في مجلة "ساينس" Science، سيجعلك تعيد التفكير في المعتقدات الخاطئة حول الخفافيش. إذ وجدت أن فوائدها تشمل البشر أيضاً. وتشير الأبحاث إلى أنه يجب علينا ألا نخاف من وجود الخفافيش، بل إن غيابها يجب أن يحرك مخاوفنا، إذا قيمنا الأمور بطريقة منطقية.
وبحسب إيال فرانك "الخفافيش مثل رائع على النوع الذي تُفضّل الابتعاد عنه، لكنها في الواقع تؤدي دوراً مؤثراً جدّاً في النظم البيئية". قد يكون هذا أدقّ وصف اختصره الاقتصادي البيئيّ في جامعة شيكاغو، ومؤلّف الدراسة الجديدة، إيال فرانك، في حديثه لصحيفة واشنطن بوست.
وقد وجد فرانك أن معدّلات وفيات الرضع البشرية في المقاطعات الأميركية التي تقلّصت فيها أعداد الخفافيش بسبب "متلازمة الأنف الأبيض" ارتفعت بنحو 8 في المئة. هذا يعادل 1334 حالة وفاة بين الرضع بين عامي 2006 و2017، والتي يقول فرانك إنها تعود إلى فقدان الخفافيش.
بدأت الأبحاث عندما صادف فرانك معلومات عن متلازمة الأنف الأبيض، وهي مرض يسبّبه الفطر المسمّى Pseudogymnoascus destructans. هذا الفطر، الذي انتقل من أوروبا إلى منطقة نيويورك، في عام 2006، من خلال معدات التسلّق أو الكهوف الملوّثة، انتشر منذ ذلك الحين في ما لا يقلّ عن 40 ولاية، علماً بأنه عندما يُصيب الفطر مستعمرة من الخفافيش، فقد تنخفض أعدادها بشكل حادّ أو تنقرض.
وانطلاقاً من ذلك، أدرك فرانك أن الانتشار الموثق جيّدًا للفطريات من جهة، والانخفاض الناتج في أعداد الخفافيش من جهة اخرى، يشكل فرصة لقياس تأثير الخفافيش على النظم البيئية وحياة البشر.
تغوص مجلة "سيمثونيان" Smithsonian العلمية في هذا الاكتشاف المثير للاهتمام، وفي ما يُخفيه من ترابط مفاجىء بين معدلات وفيات الخفافيش وتأثيرها على ارتفاع معدلات وفيات الرضع البشرية.
الفطريات والأنف الأبيض ووفيات الرضع
يعترف فرانك خلال حديثه إلى كاترين أينهورن من صحيفة نيويورك تايمز بأنه"عندما قرأت كيفية انتشار هذا المرض من مقاطعة إلى أخرى، وقضائه على أعداد الخفافيش، قلتُ لنفسي ربما تكون أفضل تجربة طبيعية يمكنك الحصول عليها".
ويضيف "إنها أقرب ما تكون إلى الخروج إلى البرية والتلاعب عشوائيًا بمستويات أعداد الخفافيش لنرى ما يحدث على نطاق واسع".
لم تكن البداية سهلة، إذ وجد فرانك أنه أمام عمل شاقّ ودقيق. حاول فرانك المقارنة ما بين انتشار متلازمة الأنف الأبيض وبيانات وفيات الرضع على مستوى المقاطعات، والصدمة أنّ الرابط مثير للذهول.
تقول كبيرة العلماء في "المنظمة الدولية لحماية الخفافيش"، والتي لم تشارك في البحث، وينيفريد فريك، لمجلة "ساينس"، "رأيتُ نتائج الدراسة ولم أصدق ذلك. كنت مدهشة تماماً".
برأي فرانك، من المستطاع تفسير تلك العلاقة بأنها تعود إلى التأثيرات الإيجابية لطريقة الخفافيش في التغذية. إذ يستهلك الخفاش الواحد ما يصل إلى 40 في المئة من وزنه في الحشرات كلّ ليلة. في المناطق الزراعية، فإن اختفاء الخفافيش يدفع بالمزارعين إلى استخدام مزيد من المبيدات الحشرية في حقولهم.
في المقاطعات التي شهدت تفشي متلازمة الأنف الأبيض، استخدم المزارعون، في المتوسط، 31 في المئة أكثر من هذه المواد الكيميائية السامة، وفقًا للدراسة. وبحسب فرانك، يبدو أن زيادة استخدام المبيدات الحشرية في البيئة هي السبب وراء زيادة وفيات الرضع البشرية.
وللتأكد من أن أفكاره تتماشى مع التدقيق العلمي، يؤكد فرانك لريبيكا وايت من صحيفة "غارديان" البريطانية، أنه قضى عاماً كاملاً في "فحص الفرضيات" واستبعاد أسباب أخرى محتملة لوفيات الرضع، مثل أزمة الأفيونيات، البطالة بين الآباء، المحاصيل المعدّلة وراثيًا، وحتى الطقس.
ولم تتطابق أيّ من هذه الأسباب مع المعطيات الفعلية، بل أظهرت أدلة دامغة أن المزارعين استجابوا لانخفاض أعداد الخفافيش آكلة الحشرات، عبر زيادة المبيدات، وأن هذه الاستجابة كان لها تأثير صحيّ سلبيّ على الرّضع البشريين".
اختفاء الأنواع يهدد صحة الإنسان
في موازاة ذلك، يشير عالم الاستدامة في جامعة جونز هوبكنز، والذي لم يكن مشاركًا في البحث، بول فيرارو، في حديثه لمجلة "ساينس" إلى أن الدراسة تقترح "فرضية مثيرة للغاية من شأنها أن تجذب الاهتمام". لكنه يضيف أن "هذه الدراسة توفر "أقوى دليل حتى الآن على أن فقدان نوع بريّ يُمكن أن تكون له تأثيرات كبيرة على الاقتصاد وصحة الإنسان".
إن الخفافيش، بسبب أكلها الحشرات الضارّة ، ليست النوع الوحيد الذي يساهم في البيئة ويعود بالنفع على البشر، وهي الظاهرة التي يُطلق عليها بعض العلماء "خدمات النظم البيئية ". فقد وجد فرانك في وقت سابق من هذا العام أن فقدان النسور في الهند أدى إلى وفاة 500 ألف شخص إضافي في شبه القارة الهندية بين عامي 2000 و2005.
وفي مثال أكثر إيجابية، وجدت الأبحاث أن إعادة إدخال الذئاب إلى ولاية ويسكونسن أدّى إلى انخفاض حوادث السيارات التي تشمل الغزلان بنسبة 24 في المئة.
إن فقدان مثل هذه الخدمات البيئية يسلط الضوء على التأثير المدمر المحتمل لانقراض الأنواع، والذي تسارع في السنوات الأخيرة. وفقاً لفرانك. وبالتالي، يمكن للأضرار غير المتوقعة أن تظهر من دون حدوث انقراض كامل؛ وذلك عندما تتعرّض النظم البيئية المحلية فقط للتقليص.
ويعترف فرانك لصحيفة نيويورك تايمز بأننا "غالبًا ما نركّز على الانقراضات العالمية، حيث تختفي الأنواع تمامًا. لكننا نبدأ في مواجهة الخسائر والأضرار قبل ذلك بكثير".