النهار

"نوبل الضاحكة" Ig Nobel كرمت حمامات توجه صواريخ وخنازير تتنفس من مكان غير مألوف
أحمد مغربي
المصدر: النهار
تركز مسابقة "إغ نوبل" Ig Nobel التي يمكن ترجمتها بتصرف "نوبل الضاحكة"، على بحوث قد تثير الابتسام، على سبيل التهكم أو الاستخفاف، للوهلة الأولى؛ لكن قليلاً من التبصر يكفي لملاحظة أنها بحوث تتعمق في أبعاد علمية غير مألوفة، وتدفع العلم قدماً نحو مسارات تخرج عن المألوف، أو "خارج الصندوق"، بحسب تعبير رائج.
"نوبل الضاحكة" Ig Nobel كرمت حمامات توجه صواريخ وخنازير  تتنفس من مكان غير مألوف
نوبل الضاحكة 2024 اهتمت بطرق غير تقليدية في التنفس قد يستفيد منها البشر (انتلجنت لفين)
A+   A-

إذا حملت كوب نسكافيه ومشيت، فلربما تنسكب منه بضع قطرات، لكن عددها يكون أكبر إذا سرت رجوعاً بظهرك، وحتى لو مشيت بالسرعة نفسها وبقيت يدك ممسكة بالكوب بثبات. لماذا وكم سيكون الفارق في الماء المنسكب؟ إذا أخبرك أحد أن علماء خصصوا سنوات للإجابة عن هذا السؤال "التافه"، ربما تراه أمراً عبثياً أو ترفاً لا معنى له. لكن، ماذا لو قيل لك إن علماء الروبوت استخدموا ذلك البحث في تحسين القدرات الحركية للروبوت، كي يصبح قادراً على السير رجوعاً بظهره، على غرار ما يفعل البشر؟

ربما يلخص ذلك المثل الترسيمة الرئيسة لمسابقة "إغ نوبل" Ig Nobel التي يمكن ترجمتها بتصرف "نوبل الضاحكة". وتركز على بحوث قد تثير الابتسام، على سبيل التهكم أو الاستخفاف، للوهلة الأولى؛ لكن قليلاً من التبصر يكفي لملاحظة أنها بحوث تتعمق في أبعاد علمية غير مألوفة، وتدفع العلم قدماً نحو مسارات تخرج عن المألوف، أو "خارج الصندوق"، بحسب تعبير رائج.      

العلم يتطور بخيال الشعر والفكر النقدي للسخرية

أخيراً، دخلت جوائز "إغ نوبل" عامها الـ34 ووزعت جوائزها التي كرمت عشرة بحوث، من بينها دراسة عن حمام يوجّه صواريخ جو- أرض وفئران وخنازير تتنفس من مؤخراتها وديدان تسكر وسمك ميت يفسر طريقة سباحة تلك الكائنات في المياه المتلاطمة.

قبل التفاصيل، يجدر تفسير تسمية "إغ نوبل". من يقرأ الصحف الغربية، خصوصاً المجلات المصورة، يعرف أن اللفظ المكوَّن من حرفي "إغ" يستعمل للإشارة إلى الضحك. وفي عام 1991، خطر في بال مارك آبرامز، مدير مجلة  Annals of Improbable Research  وترجمتها الحرفية هي "حوليات البحوث الخارجة عن التوقع"، وذلك لتكريم دور الخيال والضحك في العلم. هناك ما لا يُحصى من الكتابات عن دور الخيال، خصوصاً الشعر، في التفكير العلمي، وهو أمر الأرجح أنه غير متوقع لمعظم القراء العرب لأن هناك ثقافة رائجة تضع الشعر كأنه نقيض للعلم، فكيف يكون أساس تفكيره؟ يحتاج ذلك الأمر إلى نقاش واسع يخرج عن إطار هذه المقالة.

 

[[نال جائزة "نوبل الضاحكة 2024" بحث عن تنفس الخنازير من مؤخراتها. إذا أردت معرفة فائدته العلمية، أنظر الصورة التالية أدناه]]

 

 

ويصعب عدم التوقف عند السخرية والضحك في العلم، باعتبار أنها تتضمن نوعاً من النقد، وإن بطريقة لاسعة ولاذعة. والأرجح أن النقد يقف في أساس التفكير العلمي. من يجرؤ، لولا النقد، على الاستخفاف بالفكرة الرائجة بأن الشمس تشرق وتدور في سماء الأرض ثم تذهب إلى المغيب؟

إذاً، تكريماً لخيال العلم الذي يتقارب مع الشعر، وتقديراً للضحك الذي يكثف النقد، دعا مارك آبرامز إلى إرساء جائزة للبحوث التي يتبدى فيها بوضوح هذين الأمر، وتثير الضحك والاستهزاء للوهلة الأولى، لكنها محملة بالرغبة في التحدي والخروج عن المألوف عبر التعمق في التفكير العلمي.

ثلاث حمامات توجّه الصواريخ

 وفي احتفال استضافه أخيراً "معهد ماساشوستس للتقنية"، وُزعت جوائز "إغ نوبل" على قوس قزحٍ من البحوث العلمية الساخرة والمتمردة.

وفي سابقة، نال عالِمٌ متوفّى إحدى جوائز "نوبل الضاحكة". ولم يكن ذلك سوى الاختصاصي في علم النفس السلوكي ب. ف. سكينر الذي حقق شهرة مدوية في القرن العشرين. ترجع شهرته إلى معارضته الشديدة لمدرسة التحليل النفسي الشهيرة التي أرساها سيغموند فرويد، التي تركز على الدوافع اللاواعية والغرائز الدفينة وغيرها. وعلى عكسها، ركز سكينر على السلوك بالطريقة المعروفة بتسمة "الانعكاس الشرطي" Conditional Reflex، بمعنى أن تصرفاً معيناً يمكن أن ينال ترضية أو جائزة، فيدرك صاحبه أنه حصل على نتيجة إيجابية. ومع التكرار في التصرف والجائزة، يترسخ ذلك السلوك. والعكس بالعكس بالنسبة إلى التصرف والسلوك الذي ينال إهمالاً أو عقاباً.

وعلى نحوٍ مشهور في علم النفس، ركز سكينر على الحيوانات لدراسة أنماط السلوك التي يمكن تفسيرها بالانعكاس الشرطي، وكذلك يمكن دفع الحيوانات إلى تبني تلك التصرفات عبر الجوائز أو العقوبات.

ومن ضمن تلك البحوث، عمل سكينر في عام 1960، على تدريب الحمام على نظام في توجيه صواريخ جو - أرض عبر تدريبها على "قراءة" خرائط المدن وشوارعها وتقاطعاتها. وآنذاك، تبنت البحرية الأميركية ذلك النظام، لكنها تراجعت عن ذلك لاحقاً ثم ألغت المشروع الذي كرّمته "نوبل الضاحكة" في 2024. وحضرت ابنة سكينر الحفل، وحملت الجائزة "السنية" المتمثلة في ورقة نقدية بمئة تريليون دولار زيمبابوي التي تساوي قرابة 40 سنتاً أميركياً!

الأوكسجين يدخل الدم من مكان غير مألوف

 اشتغل أحد البحوث المكرمة في "إغ نوبل 2024"، على تأثير الكحول الموجود في المشروبات الروحية، على الديدان وحركتها، وبيَّن أنها تسكر وتثمل بطريقة ليست بعيدة عما يحصل مع البشر.

إذا كنت في البرية محتمياً بجذع شجرة ضخمة، فالأرجح أن لا تتأثر بهبوب عاصفة ما، إلا تأثيراً ضئيلاً. تلخص الكلمات السابقة أحد البحوث المكرَّمَة من "نوبل الضاحكة"، وعمل على دراسة طريقة سباحة أسماك الترويت في المياه المتلاطمة. وبيَّن أن الأسماك تعمد إلى ترك نفسها للتموجات بأكثر مما تسبح فعلياً.

[[تصبح العمليات الجراحية سهلة كثيراً إذا ضخ الأوكسجين للمريض المُخدَّر عبر الشرج]]

 

ولعل البحث الأشد طرافة، وأهمية بالطبع، هو الذي تناول إمكانية حصول حيوانات ثديية على الأوكسجين، عبر منطقة الشرج في مؤخراتها. وبالنظر إلى كثافة التغذية الدموية لتلك المنطقة التي تشكل نهاية الأمعاء الغليظة، فمن الشائع استعمالها في إعطاء بعض الأدوية. واستناداً إلى ذلك، عمل علماء من جامعة طوكيو إلى دراسة إمكانية استعمال الشرج في تزويد الجسم بالأوكسجين، أو بالأحرى تنفسه منها، سواء عبر ضخ سائل غني بالأوكسجين أو ضخ ذلك الغاز مباشرة في تلك المنطقة.

ماذا لو أمكن الاستعاضة عن ذلك بطريقة بسيطة وسهلة تتمثل في إدخال حقنة شرجية يتدفق عبرها سائل مشبع بالأكسجين أو حتى ضخ ذلك الغاز مباشرة. أليست تلك قفزة علمية؟

اقرأ في النهار Premium