رحل أحد عناقيد الفنّ الأصيل إيلي شويري عن عمر 84 عاماً، تاركاً لجمهوره أجمل الإمضاءات الوطنية والفولكلورية والوجدانية التي لا تموت.
العودة الأرشيفية إلى عطاءات الراحل شويري الذهبية للوطن وللحبيب تختصر السيرة الذاتية لرجل عاش بقلب استمدّ نبضه الحقيقي من موهبة أراد الله أن تكون نعمة علينا. ففكر إيلي شويري كان قائماً على الموسيقى الجدّية والأعمال الهادفة، وطالما تمسّك بمبدأ أنّ الفنان وُجد ليوصل رسالة أو حالة معيّنة لأنّه كما يقول "ليست كل الفنون وُجدت لتكون مخصّصة ليوم السبت، بل إنّ الفن الحقيقي هو ذلك الذي يقول شيئاً".
من السهل اليوم العودة إلى الإنترنت واستعادة ما قدّمه شويري من كنوز، لكن حتى في إنعاش الذاكرة عبر مكتبته الفنية تستيقظ الرسائل والنداءات والآهات والمواويل التي قدّمها بصوته أو بأصوات أهم فناني ذلك الزمن، لتتصدّر اليوم وصايا كثيرة تركها عبر أعماله منها: "يا ناس حبّوا الناس الله موصي بالحب، الحب فرح الناس يا ويله الما بحب".
أجمل ما يمكن نبشه من هذا الأرشيف العميق قصة أغنية "كلّ يغني على ليلاه" للسيدة ماجدة الرومي. يستعيد شويري في دردشة مصوّرة ولادة عمل وطني في العام 1990، يوم كانت غبار الحرب الأهلية حاجبة الصورة الحقيقية عن هذا البلد، ويقول: "كنت في إجازة بقبرص مع عائلتي وبعض الأصدقاء من بينهم الماجدة. حصلت دردشة بيننا وانتهت بطلب الأخيرة منّي قصيدة تحمل نَفَس "كلّ يغنّي على ليلاه"، في صرخة أرادت أن توصلها جراء ما يحصل في لبنان. حصلت لقاءات مكثّفة بيننا على مدى شهرين إلى ثلاثة أشهر لتخرج الأغنية".
تكملة القصة أتت على لسان الماجدة، فقالت: "كنتُ أجهّز لمجموعة من الأغنيات، فتمنّيت على شويري أن يلحّن لي قصيدة وطنية، حضّر حينها مقطعاً طلبت منه إضافة بعض التعديلات عليه، وقلت له: قلنا ما قلناه ولم يقتنعوا (أي الزعماء)، علّهم يقتنعوا إذا نطقنا بالآهات ويشعروا معنا أكثر فتكون هذه الآهات نابعة من القلب ومن عمق خوفنا وحزننا وعمق تأملنا بمستقبل للبنان أفضل".
الفنان القدير عبده منذر الذي يحاول لملمة كلماته في رثاء صديقه، يقول في حديث لـ"النهار": "هذه مشيئة الله وهذه حال الدنيا التي تفقدنا أصدقاء وفنانين لن يعوّضوا. تشاركنا سوياً في تلحين مسرحية "صخرة طانيوس"، وجمعتنا لقاءات وجولات كثيرة برفقة الماجدة، إضافة إلى ألحان كنت أوزّعها من بينها (كل يغنّي على ليلاه)". كما شارك في المسرحية الدينية الغنائية "طريق الجلجلة"، وأدّى حينها بإبداع دور الرّاوي.
منذر متأثر لفقدان فنانين قديرين، لكنّه على يقين أنّ أثرهم يجب أن يبقى على مر الأجيال، ويضيف: "قدّم الجميع رثاء لأجل إيلي، لكنّني اليوم في حالة حزن لخسارة صديق ويتملّكني حزن كبير لأنني كنت أنوي زيارته منذ ستة أشهر فأجّلت الظروف لقاءنا وأنا ألوم نفسي لعدم حصوله". ويُكمل منذر: "أعطى شويري للبنان وكُرّم من رئيس الجمهورية بوسام الأرز الوطني على أعماله الوطنية جمعاء من "تسلم يا عسكر لبنان" إلى "بكتب اسمك يا بلادي" التي غنّاها الفنان جوزف عازار".
وقال عازار في حديث لـ"النهار": "أصبحنا نزداد شوقاً لأحبّة رحلوا وبات هذا الحنان يعذّبنا، لكن ما حيلتنا. رحم الله الفنان الكبير إيلي شويري، وصوته النابع من قلب لبنان وجباله الشامخة. كان متألقاً دائماً، غنّى الحب والوطن النابعين من التراث الحضاري العظيم".
يتابع الفنان القدير: "عاصرته على مدى 60 عاماً، غنّينا سوياً مع الأخوين الرحباني عندما كنت أؤدي دور "راجح" في مسرحية "بيّاع الخواتم"، قصص لا تمحى من الذاكرة. هو زميل ورفيق العمر وقيمة فنية كبيرة، ومطرب شفاف وشاعر ومؤلف وملحن، كان من كل النواحي مبدعاً".
يستعيد عازار أجمل الأعمال التي تعاون فيها مع الراحل: "غنيت له أكثر من أغنية على رأسها "بكتب اسمك يا بلادي"، التي كنت أوّل من غناها في العام 1974. أذكر أنّ الراحل اتصل بي قبل أسبوع من ذكرى الاستقلال، وقال لي: هذا النشيد يليق بصوتك ونريده أن يكون هدية إلى الجيش اللبناني، وهو ما حصل. سجّلنا الأغنية، وتوجّهنا إلى مديرية التوجيه وأهديناهم هذا النشيد العظيم، ثمّ تابعت طريقي في الليلة نفسها وصوّرت النشيد في "قناة 11"، حيث استقبلني حينها الراحل رياض شرارة وقدّمنا أمسية بمناسبة الاستقلال".
يتحدّث عازار عن هذه الأغنية التي لاقت شهرة واسعة في العالم العربي، حتى أنه فوجئ خلال جولته الفنية مع فرقة بيت الدين للرقص الشعبي في البرازيل بترجمتها إلى البرتغالية. ويتابع: "في العام 1979 التقيت بالقدير دريد لحام في معرض دمشق الدولي، وكان حينها رئيساً لنقابة الفنانين في سوريا، قدّمت حينها حفلاً غنائياً برفقة فرقة فولكلور فطلب منّي لحّام أن أعيد غناء الأغنية مرة ثانية، وتواصل معي بعدها لتنسيق لقاء في الشام. اعترف لي يومها أنّ الأغنية دخلت إلى قلبه، قدمت له الكاسيت ليسمعها دائماً، حفظها وغنّى مقطعاً منها في مسرحية (كاسك يا وطن)".
بصمات شويري التي لن تنضب يعبّر عنها الفنان القدير غسّان صليبا، ويقول في رثاء الراحل: "بداياتي الفنية كانت معه، وأوّل شخص تعاملت معه كملحن هو إيلي شويري. فنان مبدع في الشعر والغناء والتمثيل والموسيقى، ومع غيابه نشعر وكأننا خسرنا ثلاثة فنانين دفعة واحدة". ويضيف: "عندما يكتب عن الوطن والإنسان والأغنيات الشعبية الراقصة وأغنيات الحب، يخرجها بعمق، متناولاً إياها بواقعية".
يستعيد صليبا روائع غنائية قدّمها وحملت توقيع شويري منها "يا أهل الأرض"، ويوضح أن "الأغنية كانت مخصصة لتكون جنريك لأحد المسلسلات، ولم يكن شويري قد عرضها على أصحاب الشأن. وعندما سمعتها قلت له: أريد هذه الأغنية ولن أتنازل عنها. تعلقت فيها لحقيقتها على اعتبار أنها تجسّد عملاً إنسانياً عالمياً يطال كل البشرية. تواصلنا حينها مع رفيق حبيقة لتوزيعها". أغنية مماثلة وطنية حضرت واستعادها اللبنانيون بعد انفجار الرابع من آب 2020 حملت توقيع شويري وصوت صليبا "كل شي تغير": "فريدة من نوعها. فيها رسائل كثيرة للحاكم وتوصيف للواقع اللبناني".
في العام 2014، كرّمت الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية بقيادة المايسترو أندريه الحاج، الراحل شويري، وكانت لهذا التكريم حكاية يستعيدها الحاج اليوم في حديث لـ"النهار": "دارت بيننا دردشة لا أنساها عندما كنت أطلعه على تفاصيل تكريمه. أردت أن أقدّم تكريماً أكاديمياً لأعماله، أذكر أنه جلس خلال الحفل في الخلف، لكنّه ما لبث أن طلب الصعود إلى المسرح متفاعلاً ومتحدثاً لمدة 11 دقيقة لا يمكن أن أنساها".
يتابع الحاج: "المفاجأة انكشفت في اليوم التالي بعدما تلقيت اتصالاً منه، قال لي: لم أستطع النوم من شدة فرحي وسعادتي عندما شاهدت الأوركسترا، وقلت في قرارة نفسي: لو أنّ هذه الأوركسترا كانت موجودة، لا أنا ولا وديع الصافي كنا سنضطر للغناء في المطاعم"، يعقّب الحاج على ما سمعه من شويري: "هؤلاء الفنانون قدّموا إمضاءاتهم الفنية، وعندما نكرّمهم في حفل أوركسترالي نزيد من رصيدنا الفني".
ويحتفل بالصلاة لراحة نفس شويري الثالثة من بعد ظهر السبت (6 أيار) في كنيسة القديس ديمتريوس للروم الأرثوذكس، الأشرفية، حيث يوارى الثرى في مدافن العائلة. وتقبل التعازي قبل الدفن وبعده في صالون الكنيسة من الثانية عشرة ظهراً إلى السادسة مساء. ويستمر تقبّل التعازي الأحد (7 أيار) من الأولى من بعد الظهر إلى السادسة مساء في صالون الكنيسة.