ثمّة حاجة فطريّة تدفع الإنسان إلى الفرح وإن طال أمد النكبة وتمادى؛ اللبنانيّون اختبروا التيّارات التي تتنازع النفس وتدفعها إلى الرقص من شدّة الألم. يُقال إنّ الطير يرتعد من ألم الجرح فينتفض ويرقص. هكذا حضر جمهور عمرو دياب ليلة السبت. تقاطروا بالأبيض ليرقصوا على أوجاعهم. اللبنانيّ لا يقبل الاستسلام ولا يُحبط بسهولة؛ "معروفة".
تترنّح عقارب الساعة في محيط الثامنة والنصف. يعتلي الـ"دي جي" رودج المسرح فتُشعل المكان آلاف الحناجر. يُحبّه اللبنانيّون لتعلّقه بهم ووفائه لهم، ولوطنيّته التي لا تشوبها شائبة، والتي لم تغرق يوماً في الشعبويّة و"بوس اللحى". يُقدّم السهرة للبنان ولبيروت و"عشّاقها القدامى". تمتزج ملحمة "لبيروت" الفيروزية بصوت نانسي عجرم. لقاء لا بدّ منه، في حبّ المدينة التي خلّعتها الضربة قبل ثلاث سنوات.
ها هو صوت الشابّ خالد ينبعث من الشاشة الضخمة، يُغنّي وجع بيروت. "Elle s'appelle Beyrouth" جمعته برودج وأتمّت عامها الثالث عشيّة الحفل. صور المدينة المكسورة والمهشّمة تملأ الشاشات. تعود اللحظة الصعبة فتنساب دمعة صامتة. لعنة الله على الوجع الذي لن يفارقنا!
العيون على الحفل الذي جاء ليستكمل صيفاً ناجحاً، والذي نظّمته "Mix Fm" مع تنفيذ مشترك بين شركتي "Velvet Productionz" و"Venture Lifestyle"، ورعاية أساسية عبر شركة "Comin" لروجيه زكار. عبارة "sold out" رافقت الحدث بُعيد طرح التذاكر، وبدأت معها رحلة الظفر بمقعد. جمهور الهضبة يترقّب ويُعلّي سقف توقّعاته.
الموعد المنتظر يقترب. تتناقل "غروبات" الواتساب صوراً لـ"الهضبة" في المطار. ها قد وصل إلى لبنان، وتفصله دقائق عن المسرح. ينسحب رودج كما دخل: هيصة، تصفيق حارّ، أيادٍ تلوّح وكاميرات تُسجّل.
بحر من شاشات ذكيّة امتدّ أمام المسرح. آلاف الهواتف أُضيئت مجدّداً وحُضّرت عدساتها. عدٌّ عكسيّ يظهر على الشاشة ويتفاعل معه الجمهور. تخترق الهواتف الفضاء لتجهز على لحظة دخول عمرو دياب. الجميع يريد توثيق الحدث المنتظر منذ 12 عاماً واقتناص اللحظة.
"أنا مهما كبرت صغير، أنا مهما عليت مش فوق". يصدح صوته بينما تراصفت مشاهد من مسيرته. تكريم، احتفاء، نجاح... مشاهد تختصر شريطاً قديماً - جديداً، كأنّها تقول للحاضرين "انظروا عظمة الرجل الذي أمامكم".
بالأبيض الذي وحّد جمهوره، أطلّ عمرو دياب داعياً إلى الفرح. "خلينا ننبسط"، يُغنّي، فتخفق القلوب وترتسم الضحكات على الوجوه عريضةً، تتّسع لمصطلحات الفرح والحب ومرادفاتها. تُمزّق المفرقعات سماء بيروت فيكتمل المشهد.
يُخبر جمهوره كم اشتاق إليه وكم يُحبّه. ثمّة رابط استثنائيّ يجمع "الهضبة" بلبنان؛ لعلّها النوستالجيا. يُغنّي لجمهور الكاسيت والأشرطة المغناطيسية التي كانت تعبث بالصوت لشدّة تشغيلها، وتخرج من إطارها البلاستيكي مستهزئة بنا. ويُغنّي لجيل الاستهلاك وما بعد الأقراص المدمجة، جيل المنصّات الرقمية والبودكاست وسرعة الطلب والتلبية.
يختار الميدلي ليزور وجمهوره الماضي. قد يؤخذ عليه الاستعجال في طرح مخزونه، لكنّه أشبع ظمأ محبّيه على أيّ حال. "قمرين"، "ما بلاش نتكلِّم في الماضي" "حبيبي يا نور العين"، "شوّقنا أكتر"، أغنيات تختصر عمراً وجيلاً كاملاً.
يُدرِك عمرو دياب قيمته في عيون جمهوره ومكانته في قلوبهم ولدى أجيال يسحرها تماسك المستوى وصقله من تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. كلمات من هنا، تشويش من هناك، عناصر لا بدّ منها لم تُثنِ منظّمي الحفل ولم تمنع "الهضبة" على أيّ حال من لقاء شعب وفيّ، يحبّ الحياة ومظاهرها وتشكيلاتها. شعب يستحقّ ألف مرّة أن تتردّد على مسامعه "بقلوبنا انتم عايشين" و"إنتو أحلى جمهور أنا شفتو".