يتولّد مفهوم الدراما البوليسيّة من تكوين الشخصيّات. الانطلاق من الذات أوّلاً، إلى التحرّر الذاتيّ في دراما لا ترى في الانطواء صفة من صفاتها. هذا هو الحال في دراما "2024"، في طبيعتها ذات الاحترام البالغ للشروط هذه، في وجود أربعة من الأبرز في الدراما في الأعوام الأخيرة. نادين نسيب نجيم أوّلاً، ثمّ رفيق علي أحمد ومحمّد الأحمد وكارمن لبّس. أربعة، يَعرف الواحد منهم، يعرفون جميعهم، أنّ العلاقة بينهم تقع في مراتب المنزلة الصارمة، حيث يدركون أن أدوارهم، أدوار الوضوح بالظفر بالسلطة. هكذا، تقوم الدراما على صراعهم بدون الإذعان بالطاعة العمياء لخطوط الشخصيات في التأليف الأوّلي على الورق.
"2024" دراما جماعة، دراما الجلد التنافسيّ حتى تتحقّق المنفعة في الصلابة والمرونة. الصلابة والمرونة في الوقت ذاته. إنّها دراما إخراج الأشياء من الذات في صالح الدراما. إنّها دراما الممثلين، مَن يملكون الإحساس والقوّة وهفو القلب والمبادئ العالية في فنّ التعامل الواحد مع الآخر، الواحد مع الآخر في الكادر وخارج الكادر.
الكادر سلطة لا مربّع فقط ولا مستطيل. كادر يقوم على الاهتمام بتحقيق الكمال في عالم الدراما، من خلال دعوته إلى استيطانه من خلال وضع الثقافة الذاتية في اهتماماته، بدون إنكار النفس. الكادر صديق إذا وقف على حياته، على تهذيبه الجماليّ، تهذيبه الأخلاقيّ، رجل أو سيدة لا يقبلان سوى الدخول في النصر النهائيّ منذ اللحظات الأولى لقراءة الورق. هذا ما حدّده مستوى الإخراج في 2024 مع فيليب أسمر، من لا يلعب على فكرة جعل السلطة هيكل الشخصية الرئيسة للإخراج، حين يراها في تعزيز العلاقات بين أفراد الشبكة الدراميّة بعد توافرها من ظفره بالصورة الأولى. وهي صورة من شروطه لا من قيوده، لأنّ أسمر، من خلال عمله الطويل في الدراما التلفزيونيّة يعرف الفروق الهائلة، الباهظة، بين الاعتماد وبين التبعية. ولأنّه كذلك، يفضّل الأسلوب الإستراتيجيّ على الأسلوب التكتيكيّ. وهو أسلوب يقوم على الإسناد، في تحديد ماهيّة الفرد أوّلاً. ثمّ، في إطلاق الفرد في كادره الرصين، الوقور، حيث لا يراه إذا لم يحقّق متعته في الطبائع السيكولوجية داخل نطاق لا يقوم على الثقافة التقليدية، حين ينبري إلى إنتاج الصورة بالكليّة الجماليّة والحسّيّة الكليّة.
صورة فيليب أسمر ذات خصائص لا تُنكر. أولاها، الصورة الذاتية، صورته. كرّس الرجل صورة تقوم على الجغرافيا الجمالية، حين وضعها في مراسم التقنية الفنية والأدب التصويريّ لا في مجال التنظيم. لا ينظّم فقط. لا يترجم، حين يضفي على الصور تحديثاته الخاصّة، بحيث تُظهر معيار السلوك الثقافيّ. لأنّ أسمر يملك سلوكه الثقافيّ في الصورة. وهو سلوك يقوم على تطوّر الصورة في تقميشها بالتصميمات، وهي تؤشّر إلى اتّجاه شخصيّته المطبوعة بالعمق، لا بالحكم على القيم.
يقيم أسمر صورته، مشهده، دراماه، على قياس مواقف التحديث. هكذا يقيّمها في حوليّاتها على المزج بين طرق المراسم في دراما تقوم على التقلّبات حلقة حلقة. وهو في صميم الفكرة هذه في 2024، لأنّها في 15 حلقة فقط. لا في ثلاثين. ولا أربعين. لذلك لا تنسجم دراماه مع مراحل محدّدة. لأنّها تتوسّع من وسع رؤاه في مدى الحلقات المحدّدة. صورة مطبوعة في العمق، محفوفة بالنمنمة والتركيز على الجذر والانبثاق في العين بطرق مباشرة، شعريّة بالوقت ذاته، ما يقودها إلى محجّاتها الكبرى. حيث أنّ رسائل ووسائل الهمّ الكبير يقود إلى الوقوع في الحتميات الخارجية (الشكلانيّة) في أحيان، وهي تراوغ الحتميات الداخليّة. ثمّ، إنّ الصورة، المشهد، تشتمل على العوامل الأبرز أهميّة في توليدها وهي تحقيق الوظيفة الدراميّة من خلال الأداء الحيّ لا من خلال الجثث المخلفة، الميتة، الهامدة. ولأنّه كذلك، يجعل ممثّليه يتطوّرون وهم يؤدّون من خلال الإحاطة الشاملة بأدائهم، لا بإظهارهم في محدوديّات لا ينتمون إليها. هو من يعرف أنّ ما يبقى، يبقى من تمتّع جميع عناصر العمل بالأهمية (إنتاج شركة الصباح). لن يتجاوز من يلعبون أدوار البطولة، حين يقدّم لهم شروط الراحة الأساسيّة. كادر نظيف، كادر جميل يحقّق تحديث نفسه وتحديث الشخصيّة، بدون تحطيم التركيب الهيكليّ لها.
فليب أسمر تفصيليّ الهوى، متجاوز، يحبّ التغلّب على التقاليد. ثمّ، أنّه في تجاوزه يقيم القوّة الدافعة على تجاوز ذاته. كأنّه يؤكّد أنّ الصورة جوهر المجتمع الصناعيّ. مجتمع منتصر في القفز فوق المفاهيم الزراعيّة، مفاهيم تقدّم الأشكال الجامدة للثقافة.
يوحي أسمر لممثّله بأنّه لا يمثّل نفسه. أنّه قوميّة في مواجهة معقوليّتها للوجود. هكذا، ترى أنّ وقوفها (الشخصيّة) على شكلها الخارجيّ، الظاهريّ، يقع في توارث الجنس، في توارث الأجناس. لذا، تقفز فوق الماضي إلى المستقبل وهي تتقدّم. وإذ تتقدّم تتطوّر. قيام العلاقات الكاملة بينها جزء من الرؤية الثقافية للدراما وهيكل مفاهيمها. "الكاستينغ" عنده وجهة، تعارضٌ مع الجاهز. توجّهٌ إلى المصير. هذا نظامه الواقعيّ. لن يضحّي بالمفهوم هذا مع من باتوا يشكّلون المعيار الأصيل للجودة. نادين نسيب نجيم في منزلة تقوم على القوّة والخبرة وهيكلة المفاهيم بعد خمس وعشرين سنة من وقوفها الأوّل أمام الكاميرا. حاسمة في كلّ دراما. حاسمة في 2024. توقع كلّ شيء بطبائعها. تبذل قواها وكأنّها تسدّد دَيناً قديماً حان أوان تسديده. بتفانيها، يغدو العمل معها أكثر اتّساقاً وفاعليّة، حين تتمكّن من توسيع نطاقه بحريّة مدهشة. لا تفهم اللقطة فقط، إذ ترقّمها في أرشيف أدائها البعيد من الشروح والتفاسير. رفيق علي أحمد، تدفّق ضدّ الموت والجمود. لعب على اختراق النموذج الأوّليّ للشخصيّة إلى نشأتها على نحوها الفنّيّ. يضعها في شبكة معانيها. إمكانات متنوّعة، يولّد اندماجها الإمكانيّات الواسعة غير المحدودة للشخصيّة. كما يعزّز أفكارها ومشاعرها. إنّه في دور الغول يقيّم حواره مع الدور بمنحه طريق المعرفة المسبقة بالطريق إلى المنجز. محمّد الأحمد في أفضل أدواره. بعيد من صورته النموذجيّة كشابّ جميل، حين يعكس الهزّات العنيفة لابن "المافيوزو" المقتول في وقوفه على بوّابة الحيرة التاريخيّة من وضعه نفسه على طريق الثأر الشاقّ. كارمن لبّس شيطان يشرف على عالم متهالك. لا تلعب على الذاكرة وحدها، حين تضبط قوانين الشخصيّة على قوانينها الجديدة إثر فقدانها شخصيات 2020 الداعمة. محنّكة لا تتوه لا في موقف ولا في نصّ.
صحيح أنّ 2024 دراما بوليسيّة لم يكتبها لا إدغار الآن بو ولا ديكنز ولا دويل ولا كولينز ولا كريستي ولا سيمنون. ولكنّها تمتلك الوعي الأمنيّ. ولو أنّ بلال شحادات (المؤلف) لا يحتكّ كثيراً بالعالم الواقعيّ في كتابة تقوم على الاستقرار والأمان وعدم تتبّع المستويات في المستوى الواحد، غير أنّه في اعتماده على الثقافة التقليديّة للكتابة، لم يضيّعْ هيبة الدراما هذه، لم يعرّضها للترنّح ولا للانهيار. الأجمل فيها لحظاتها الإنسانية، في العلاقة بين رسميّة وابنة سما. تالين أبو رجيلي، الفتاة الصغيرة في دور ميرا، تنغمس في إثراء الدراما بارتفاعاتها. كما أثراها أبو كوكو هرّ أسود تزدهر معه اللمسة الإنسانيّة وسط صراع شرس، بعيد المدى. ثمّ، العلاقة بين أيمن (وسام صليبا) والنقيب سما.
2024 معاهدة كرامة بين مجموعة من المبدعين. وإنتاج سخيّ لا يخاف ولا يقلق، وهو يدخل إلى العمليّات الإبداعيّة بالطرق السمحة.