النهار

"خيال صغير" في قضيّة كبيرة!
بوستر مسرحيّة "خيال صحرا".
A+   A-
لوسيان شهوان
 
أمام أي رواية مكتوبة أو بحث منشور، إنتاج سينمائيّ أو عمل مسرحيّ، يعالج واقعة معيّنة أو مسار ما أو حدثاً كبيراً من تاريخنا؛ مجموعة شرائح من المشاهدين أو القرّاء، معنيّون بتلقّي رسالة من خلال هذا الإنتاج، وكل فرد يتلقّى رسالة المنتَج على طريقته ويتعامل معها انطلاقاً من خلفيته الفكريّة والثقافية والتحصيل المعرفيّ المُكتسب في حياته.
 
"الحرب اللبنانية"، موضوع أساس، يحلو للكتّاب أو المنتجين العودة إليه من خلال أعمالهم الأدبيّة أو الفنيّة، منهم ينصف فريقاً، ومنهم ينتقد آخرَ. بين خيار "الجبهة اللبنانية" وخيار "الحركة الوطنية" فرقٌ كبير في النظرة إلى الحرب، ومع هذا الفرق نرى من ينتقد تجربة الأوّل أو ينصفها كما نرى من يختلف مع تجربة الثاني أو يبرّرها.
 
"الحرب اللبنانية"، حربٌ فُرضت على المكوّن الأوّل من المجتمع اللبناني، لم يكن يريدها في الأساس، ولم يكن يبحث عن نفسه من خلال "العنف"، وعندما شارك فيها دفاعاً عن أهله وثقافته لم يذهب إلى خارج حدود وطنه ليقاتل مواطناً آخرَ من جنسيّة أخرى على أرض وطن آخر. بل اختار أن يثبت في أرضه ودافع عنها بكلّ الطُرق رافضاً كلّ جسم غريب مسلّح على أرضه حتى الاستشهاد. والحرب نفسها، استعملها مواطنٌ لبنانيّ آخر لنصرة قضيّة ليست لبنانية، وتعدّى في مناصرته تلك القضيّة غير اللبنانية مع أفراد غير لبنانيين على المواطن (الذي فُرضت عليه الحرب)، بحثاً عن وطنٍ بديل للفلسطينيين في لبنان وتأييداً منه للكفاح المسلّح على الأراضي اللبنانيّة. هكذا بدأت الحرب اللبنانية، والكل يعرف ذلك...
 
شاهدت مسرحيّة "خيال صحرا"، وشاهدها معي جمهور واسع من مختلف أطياف وأجيال المجتمع اللبناني، هذا ما اعتدنا رؤيته في مسرحيات من تأليف وإخراج جورج خباز الذي استطاع بأعماله طيلة السنوات السابقة زرع الابتسامة على وجوه عدد كبير من اللبنانيين. وبعد مشاهدتي العرض المسرحيّ لم أعرف إذا كان المؤلف يريد أن يقول شيئاً غير أنّ نضالات جميع من شاركوا في الحرب لا فائدة منها... لا يمكنني أن أدرك ما هي المعاني النضالية التي أعطاها المقاتل في صفوف الحركة الوطنية لمشاركته في الحرب لأنني لم أحتكّ بالكثير منهم في حياتي حتى اليوم، ولكن الأكيد أنّ مئات وآلاف من شاركوا في الحرب في صفوف الجبهة اللبنانية لا يمثلهم ما حاول المؤلف إظهاره في شخصية "أبو الزوز" التي لعب دورها عادل كرم. انطلاقاً من الرسالة التي تركتها المسرحيّة في ذهني أردت أن أعبّر عن رأي وأتوجّه به إلى كلّ من شاهد هذه المسرحيّة، والذين وفق مراقبتي الأوليّة لطبيعة الحضور رأيت أنّهم ينتمون إلى ثلاث فئات من مجتمعنا، فرأيت أنّه من الضروري التوجّه إليهم على طريقتي المتواضعة لأفكّر معهم في مضمون المسرحيّة التي شاهدنا عرضها على مسرح كازينو لبنان.
 
- الفئة الأولى، هي التي عايشت الحرب اللبنانية وشهدت عليها وعلى مآسيها. قلّة قليلة منها، شاركت في الحرب وتحمّلت مسؤوليتها أمام الله والتاريخ... أعرف الكثير منهم ومن بينهم والدي، وقد استطاعوا أن ينقلوا إليّ اهميّة ما فعلوه إلى جانب رفاقهم في صفوف المقاومة اللبنانية وما زالوا يفتخرون ببطولات تلك المرحلة ولو كانت الظروف الاجتماعية للبعض منهم في مرحلة معيّنة صعبة، فهذا ليس بسبب انخراطهم في الحرب، فمن وضع لبنان في مرتبة الأزمة هو غياب الدولة وليست الأحزاب التي انتموا إليها والتي فعلت كلّ شيء من أجل بقاء الدولة. والدولة غائبة اليوم ومشلولة الحركة بسبب عصابة أرادت تغطية سلاح غير شرعيّ، وهذا السلاح غير الشرعيّ اكتسب مشروعيّته من فاسدي العصابة.
 
- أنا أنتمي إلى الفئة الثانية، نحن الذين ولدنا في الحرب، ونحن الذين نشهد كلّ فترة على موجات مختلفة لتسخيف هذا النضال، أو أقلّه عدم إعطائه حقّه... وأشعر بضرورة التذكير بأنه علينا متابعة نضال الاباء لاستعادة قرارنا الحرّ وليس لتسخيف مسيرتهم وعدم استكمالها، لأنّ هناك من أراد التقليل من أهميّة المسؤولية التي تحملّها أباؤنا ببعض السرديّات الجزئية لبعض الحالات المحدودة في مجتمعنا. مناصرة الحقّ أمرٌ مقدّس وعدم الانخراط في قضايا المجتمع والعيش على هامش الحوادث لا يصنع منّا أفراداً صالحين لقيادة المجتمع، فمن الضروريّ أن ننكبّ على بناء أنفسنا، ولكنّ من الضروري أيضاً أن يساهم كلٌ منّا على طريقته في نهضة المجتمع وتطويره من خلال الإنتاج والوعي السياسيّ.
 
- أمّا الفئة الثالثة التي أريد أن أتوجه إليها، فهي فئة تكوّن وعيها السياسيّ في السنوات القليلة الماضية، هذه الفئة مدعوّة أكثر من غيرها إلى التعمّق في تاريخ لبنان المعاصر لمعرفة أنّ أسباب اندلاع الحرب اللبنانية ليست كما حاولت المسرحية تبسيطها، ففي العمق، كانت بسبب اختلاف النظرة الجوهريّ إلى لبنان ودوره، وابتعاده آنذاك عن تبنّي قضايا لا تمتّ لمصلحته بصلة. في السابق، أراد الفلسطينيون وبعدهم السوريون ومن ناصرهم، استعمال لبنان ساحة لتحقيق مآرب واهداف غير لبنانية، لذلك كان هناك من وقف في وجههم. صحيح أنّ نضالات الحرب اللبنانية لم تحقق كلّ أهدافها، وهذا ما يمكن استنتاجه من شريط الحوادث المصوّرة الذي تطرّق المؤلف إليه في آخر العرض، وهذا واقع عايشنا بعض محطّاته. لكنّ التعلّم من أخطاء الماضي لا يكون عبر عدم التعمّق بأسباب تلك الأخطاء، ولا عبر نسف نضال الأسلاف أو الانكفاء اليوم، من هنا أدعوكم لحسم خياراتكم داخل أروقة العمل السياسيّ وليس خارجه. ها هي الديمقراطيات في أرقى دول العالم، مبنية على الأحزاب والتيارات السياسية، وأن تكونوا "لا شيء" خطر كبير على مستقبلكم أوّلاً. اسألوا وابحثوا واسعوا الى الحقيقة، حقيقة أنّ هناك من دافع عن لبنان وهو مستمرّ في ذلك، ومن دافع ليس "خيال صحرا"، وفي المقابل، نعم هناك من انقضّ على لبنان ولا يزال مستمرًّا في عمليّته التدميريّة. الخطيئة الكبرى هي في وضع جميع الأفرقاء في خانة واحدة. ربما لن تصادفوا "المثاليّ" في بحثكم، لأنّه ما من مثاليّ أصلاً، هناك ربّما الأقرب إليكم، والذي تلتقون مع بعض طروحاته وأفكاره، هناك المكان المناسب للانطلاق.
 
قلت كلّ ذلك لأنّني لمست أنّ العمل المسرحيّ تضمّن كلّ شيء: إلّا المعاني العميقة للنضال والحريّة والموقف الجريء.
 
في رأيي لا يمكن لأيّ إنتاج يتطرّق إلى الحرب اللبنانية، أن يسخّف هذه الحرب، هذه المرحلة الأكثر من مهمّة في تاريخنا، ويقوم باختصارها بحالات نكنّ لإنسانها كلّ الاحترام والتقدير، لكنّها لا تعكس الواقع الكامل. وما شاهدناه كان "خيالاً صغيراً" في قضية كبيرة اسمها الحرب اللبنانيّة وحوادثها ومعانيها.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium