إيمان إبراهيم
في موسمه الثالث يبدو مسلسل "للموت" تائهاً بين فانتازيا الخيال والواقعية الفجّة، بين تونس وبيروت، وبين البدء من جديد بعد نهاية كانت محتّمة، واستكمال لأحداث انتهت فمُدّد بعضها رغماً عن أنف الدراما.
ورغم الضّياع لا يزال في المسلسل سحرٌ قادرٌ على شدّ المشاهد، وعلى جعل متابعة دراما الأقبية والمغامرات المعروفة النتائج سلفاً، والبطولة التي لا تُهزم محتملة.
كاميرا فيليب أسمر، تُخرِج حتى الأقبية المظلمة من ظلمتها، وتنقل المشاهد من بؤس خانق إلى فسحة يلتقط فيها أنفاسه... مشاهد الظلام والبؤس الجاثم على أنفاس المشاهدين، والعزف على وتر المأساة لا تُحتمل.
أما الكاتبة ندين جابر، فكلّما تعقّدت القصّة تجيد تفكيك العقد، وكلّما اعتقدتَ أنّ إيقاع المسلسل خفَت، تمدّه بأوكسيجين يبقيه على قيد التشويق، وكلّما ظننت أنّ أبطاله قالوا كلّ ما لديهم، تفاجئك بأنّ لديهم بعد ما يقولونه.
أما سحر وريم (ماغي بو غصن ودانييلا رحمة)، فقد ألفهما المشاهد فلم يعد بصدد تحليل كيف أنّ هاتين المرأتين عصيّتان على الهزيمة، وكيف أنّهما تلعبان على أرض الخصم كما على أرضهما دون وجل، وكيف أنّهما قادرتان على تطويع الهزيمة وتحويل الانكسارات إلى انتصارات، والاحتفال بعدها بانتظار انكسار جديد.
تبدو سحر في تونس كما هي في بيروت، قادرة على التحكّم بمجريات الأمور، عندما تلعب على أرض غريبة يصيبك الوجل، أمّا هي فكلّ الملاعب ملاعبها، وهي الحكم والجمهور وهي من تضع قواعد اللعبة وترغم الآخرين على اتّباعها، وغالباً ما يذعن لها هؤلاء صاغرين.
أما ريم، فتبدو أكثر شراسة، لم تعد تلك المرأة الرقيقة التي تغريها كلمة أو وردة، تدرك سحرها وتستخدمه بطرق مشروعة وغير مشروعة. علاقتها مع سحر تخطّت حدود الصّداقة، هي علاقة لا تنتمي إلى عالم المافيات وتحالف المصالح، ولا إلى عالم الصداقات التي تنهار عند الخلافات، تخطّت الصديقتان هذه المعضلة منذ أن عرفتا أن مصيرهما واحد للموت.
علاقتهما مستفزّة، عصيّة على التصديق، هي جزء من فانتازيا العمل الجانح نحو الخيال، يعيدك إلى الواقع أبطال الحيّ الشعبي في بيروت، تركوا حيّهم وخلعوا رداء الفقر، أغدقت عليهم سحر وريم ثروة ضخمة، انتهت بعدها حكايات الحيّ البسيط، وانتهت قصص ساكنيها، فتحوّلت بعض الشخصيات إلى عبء على السّياق الدرامي، بعد أن كانت أبرز أعمدته في الموسمين الماضيين.
فانتازيا الخيال قادرة على جعلك تتخطّى فكرة كيف تحوّلت تونس إلى محافظة لبنانية، حيث تدير كارما (ورد الخال) وأخوها غير الشقيق (فايز قزق) عصابتين قوامهما من اللبنانيين والسوريين، تسجن كارما الفتيات اللبنانيات في أقبية مظلمة يشرف عليه حرّاس سوريون، يرتبط زوجها بعلاقة عاطفية مع مذيعة لبنانية تقيم في تونس، حتى صديقات ابنتها لبنانيات، لا تونسي في تونس سوى جاكو صاحبة الملهى الليلي حيث تعمل سحر وريم، وجارهما التونسي، الذي جرّهما بسيناريو مفتعل للعودة إلى عالم المافيا، بعد أن اختار أن يخبّئ في منزلهما "فلاش ميموري" تحمل أسراراً خطيرة.
أما الواقع الفج فهو الذي تنقلنا إليه مشاهد بيروت، حيث انتقل سكّان الحيّ إلى الميتم الذي تديره حنان (رندة كعدي)، بعضهم انتهت حكاياته وبعضهم اتّخذت أبعاداً أخرى وبعضهم أرهق وجوده السّياق الدرامي للقصّة.
لم يكن مبرّراً عودة سارية (كارول عبود) إلى المسلسل وانتقالها مع سكّان الحيّ إلى الميتم، هي التي لا يؤمن لها جانبٌ وعند أوّل منعطف تغدر معتمدة على فطنتها، وذكائها، وقدرتها على اقتناص الفرص وتصيّد نقاط الضّعف. كانت كارول زينة العمل وباتت إحدى أبرز نقاط ضعفه. اجترار المواقف نفسها وإعادة لازمة "الرزق" باتت مملّة.
وخيراً فعل صنّاع العمل بأنّهم أنهوا دور عبد الله (أحمد زين) بماستر سين، بعد مشاهد هشّة مكرّرة، أرادت الإضاءة على معاناة مريض ألزهايمر، فتحوّلت إلى مشاهد كوميدية لم يخلُ بعضها من تهريج. استجمع الفنان الكبير قواه في المشهد الأخير، وقلب الطاولة معلناً انتهاء دوره بما يليق به.
أما محمود (وسام صباغ) فتحوّل من شاب بسيط إلى مشروع نائب حلمه يناطح السّحاب، خطابه شعبوي، يستعيد قضيّة الأموال المنهوبة في المصارف، والكهرباء المقطوعة، ومحاربة الفساد، فيتحوّل المسلسل بلحظة من فانتازيا الأبطال الذين لا يقهرون في تونس، إلى ما يشبه نشرة أخبار في زمن الانتخابات في بيروت.
ورد الخال مايسترو العمل وضابطة إيقاعه، مذهلة بدور العازفة المرهفة، العاشقة التي ترمي أسلحتها جانباً حين يمسّ الخطر حبيبها، الأم الحنون التي تغدق على ابنتها اهتماماً خانقاً، ومذهلة بدور زعيمة عصابة قادرة على أن تجرّك إلى ملعبها القذر تتواطأ معها دون تأنيب ضمير.
دخول عناصر جديدة إلى العمل لم يضف إليه شيئاً يذكر، ما زالت أدوار الممثلين فايز قزق ويامن الحجلي ومهيار خضور على الهامش، لم تقدّم شيئاً يذكر، مشاهدهم مكرّرة لا يُنتظر منهم شيء، بانتظار أن يقلب أحدهم الطاولة.
11 حلقة ممسوكة من "للموت 3"، يشوب بعضها التطويل، مسلسل يفاجئك حيث لا تتوقّع، رغم أنّ أبرز نقاط ضعفه تكمن في أبطاله الذي لا يُهزمون، حتى عندما يموتون يعودون من الموت، ويجدون دوماً مخرجاً يبرّر بطولاتهم.
ثلاثة مواسم كافية من المسلسل، أصبحت عودة ماغي بو غصن ودانييلا رحمة بأدوار جديدة ضرورة، كي لا تغرقا في دوّامة الأجزاء، يصبح بعدها خلع ثوب الشخصية مهمة شبه مستحيلة.