النهار

"حبيبة قلبي إنت" وتذوّق فكاهة الألم... لوسيان بورجيلي لـ"النهار": الأحداث لا تنتهي مع إسدال الستارة
إسراء حسن
المصدر: "النهار"
"حبيبة قلبي إنت" وتذوّق فكاهة الألم... لوسيان بورجيلي لـ"النهار": الأحداث لا تنتهي مع إسدال الستارة
الممثلان طارق أنيش وفرح شاعر في مسرحية "حبيبة قلبي إنت".
A+   A-
لقد بات مؤكداً أنّ الإبداع اللبناني هو خشبة خلاص هذا البلد وقادر على محو وصمات العار التي تسبب بها مسؤولوه أمام شعبهم وعلى مرأى من العالم، فخفتت شمعة لبناننا البريء التي طالما كانت متوهّجة قبل أن يقع تحت قبضة من اقترف الجرائم والأوجاع والضربات.
 
كلماتنا الإنشائية حول منقذي لبنان لم تعد حبراً على ورق، والشاهد الحديث هو اسم المصمم اللبناني العالمي إيلي صعب الذي لمع اسمه، أمس، كالذهب في حفل الزفاف الملكي لولي عهد الأردن الأمير الحسين بن عبدالله الثاني والأميرة رجوة. لقد حضر لبنان في الزفاف العربي من خلال بصمات صعب.
 
من هنا، فإنّ الإصرار على إيلاء الفن والثقافة اهتماماً جدّياً أخذ حيّز التنفيذ، وزحمة العروض المسرحية التي تشهدها بيروت ردّت الروح إلى هذه المدينة التي أنهكتها ظروف قاسية لا ذنب لها في تحمّل أثمانها. فبعد الجمود القسري الذي فرضه وباء كورونا، وما تبعه من أوضاع اقتصادية وسياسية ومعيشية تعيسة أدّت إلى ضعف الحركة الفنية، تنشط هذه الحركة اليوم وفي عز الصعوبات كي تقول: إنّ الفن في لبنان أخذ استراحة ولم يتوقّف، لأنّ الوقفة الثقافية والفكرية تولد من رحم الأزمات، وتستمد دفعها أكثر عندما تنطلق من خشبة مسرح الواقع.
 
الكاتب والمخرج المسرحي لوسيان بورجيلي أطلق عملاً مسرحياً، بعنوان "حبيبة قلبي إنت"، انطلقت عروضه في 20 نيسان الماضي ولا زالت مستمرّة بنبض قويّ، إذ أراد بورجيلي من خلالها أن يحاكي الواقع كما اعتاد في أعماله المسرحية والسينمائية، فجاءت مشاهده خالية من أية إضافات: فجّة، صادمة، جريئة، قاسية، مضحكة، والأهم هادفة.
 
ولأنّ النطق بتفاصيل أحداث قصة المسرحية من شأنه أن يفسد على الراغب في حضورها عنصر المفاجأة الذي تحمله، يمكن التعليق في فضاء عام عما حصل داخل غرفة نوم من حوار بين امرأة (فرح شاعر) ورجل (طارق أنيش)، بعدما سقط الأخير طعماً سهلاً أمام الأخيرة مكّنها من الانقضاض عليه وجعلته سجيناً لديها، مكبّلاً معصوب العينين. المسرحية مصنّفة لمن هم فوق الـ 18 عاماً، ونابعة من الفكر الإنساني والاجتماعي والثّوري الذي طالما عبّر عنه لوسيان في أعماله الفنية.
 
 
حافظ إيقاع المسرحية على جوّه المتصاعد وأفلح لوسيان بتقديم التراجيديا المطلوبة لمعالجة الحبكة رويداً رويداً. قدّم شخصية الرجل التي أداها طارق أنيش، فكان أمام الجمهور رجلاً متلوّناً، يعيش في عوالم كثيرة يوظّفها لمصالحه الشخصية بدءاً من شهواته الجنسية وبعدها الخبث المثقل بالعبارات الفجة والخادشة وصولاً إلى مدّعي البراءة والمحاضر بالعفّة ونظافة الكفّين. جميعها خصائص قدّمها أنيش بدوره، والذي رغم صفات شخصيته السيّئة، فإنه كان قادراً وبسهولة تامة على إضحاك الحاضرين.
 
قدّمت المسرحية خلطات درامية كثيرة، سخرت من الحكام وصرخت مطالبة بالإصلاح بعد تسلّط السلطة الماكرة على أرواح شعبها. كنّا أمام صراع بين الخير والشر، فتمثّل الخير في هذه المرّة بالمرأة الخائبة التي تعيش نزاعاً نفسياً وروحياً، مشحونة بالغضب وراغبة في الانتقام والتمرّد لنفسها بعد الظلم الذي لحق بها كما شعبها. لذلك، وُضع الجمهور أمام أساليب مزجت بين الواقعية والكوميديا السوداء، في حبكة غير معقّدة، قوّتها ليست في ديكورها بل بواقعيتها وأحداثها النفسية التي كانت تضع الجمهور في حالة صدمة من الفضائح التي يتحمّل ذاك الرجل وزرها. لهذا السبب أفلح لوسيان في جعل المسرحية مناسبة لتكون شريحة من الحياة، هدفه الأساس منها كان في تبيان الحقيقة، ولا شيء سوى الحقيقة العارية.
 
يقول لوسيان بورجيلي في حديث لـ"النهار": "ولدت فكرة المسرحية في العام 2015، وكان مضمون مسوّداتها مختلفاً عن التي تقدّم اليوم. ففي كل فرصة متاحة لي كنت أجري عليها التعديلات بهدف تطويرها وجعلها أقرب إلى الناس، لأنها في نظري تشكل مرآة يحفّزنا على ضرورة إعادة التفكير في حياتنا، وأحداثها لا تنتهي لحظة إسدال الستارة، بل كنت حريصاً على جعلها تفاعلية تفتح أبواب النقاشات في شأن أبعادها".
 
إلى اليوم تخطّت عروض المسرحية الـ 26، استهلّ الـ 20 عرضاً منها على خشبة مسرح مونو بالأشرفية وتواصل نشاطها اليوم على مسرح المدينة. يقول بورجيلي في هذا الإطار: "لا نعلم متى سيتوقف عرضها لأننا نلبّي طلب الجمهور الملتزم إلى حدّ كبير في عدم حرق الأحداث واحترام خصوصية ما شاهده داخل الجدران الأربعة. لذلك، تستمر العروض الأسبوع المقبل على مسرح المدينة وتباع البطاقات في جميع فروع "مكتبة أنطوان".
 
 
بالنسبة لمؤلف فيلم "غداء العيد"، فإنّ "حبيبة قلبي إنت" تكمن قوّتها في المفاجآت والصدمات، ويفنّد: "نذهب عبرها إلى أماكن مرتبطة بحياة المواطن اللبناني. ولا أعتقد أنه يمرّ يوم ولا يتساءل أحد عن الإحباط الذي يحاول التخلّص منه. يومياً كثر يحاولون البحث عن إجابة شافية لهذه التساؤلات: لماذا نحن هنا؟ هل الهجرة هي الملاذ من هذا الواقع المأسوي؟ ما الذي أوصل البلد إلى ما هو عليه اليوم؟".
 
ويتابع: "الانتقام الذي نشهده في المسرحية مبرّر ويحكي عما يصل إليه الإنسان في ظل غياب العدالة وعدم قدرة الدولة على تحصيل الحقوق، هذا الانتقام فكرت فيه المرأة التي تؤدي دورها فرح شاعر، وأقدمت عليه عن سابق تخطيط وتصور. هي انتفاضة على الظلم والوجع. كلنا اليوم ضحايا هذا النظام، وجميعنا مناضلون لأننا لا زلنا في لبنان، نناضل لأجل أبسط الحقوق الحياتية".
 
 
ويشيد بورجيلي بدقّة الأداء الذي قدّمته شاعر: "لقد تأنّت في الدور والشعور الداخلي الذي استطاعت السيطرة عليه، فأفلحت في تبيان هذا الفرق الشاسع بين شخصيتها وشخصية الرجل الذي أدى دوره المبدع طارق أنيش وحاز تفاعلاً جميلاً من الجمهور، مقدّماً شخصية ملوّنة في تعاطيها مع الرأي العام والأشخاص الذين حولها. هو شخص متمرّس في التلاعب. لذلك، وقع خياري على طارق وفرح لأنني علمت أن الخبرة التي يملكانهما ستفي عناصر المسرحية حقّها، من دون أن أنسى جان بول الذي سبق أن جمعنا أكثر من تعاون".
 
إذن، تجسّد "حبيبة قلبي إنت" فرصة تذوّق فكاهة الألم أمام شخصيتين مضطربتين تثيران الضحك وتنبشان الماضي لتسدل عليهما ستارة العتمة بواقعها المظلم.
 
 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium