انشغل الإعلام اللبناني على مدى يومين متتاليين برحيل نجل سلطان الطرب جورج وسوف، وديع. الجمهور الذي لم يعرف النجل البكر لفنانه المحبوب رأى نفسه منخرطاً في أجواء حزن منذ إعلان خبر الوفاة.
على مدار الساعة نقلت القنوات والمواقع والصفحات الرقمية وقائع تقبّل العزاء من كنيسة مار نقولا في محلة الأشرفية ببيروت. تابع المشاهدون دخول المعزين وردات فعل الوالدين المفجوعين والعائلة. اقتنص المراسلون اللحظة لاستصراح المعزّين من فنانين وسياسيين، وأصدقاء وأقارب.
خصّصت إحدى المحطات فواصل مصوّرة ضمن نشرة الأخبار لمواساة جورج وسوف الذي واكبه الناس في تفاصيل حياته منذ كان طفلاً في عمر الرابعة عشرة حتى بلوغه اليوم عمر الـ62.
من قاعة تقبّل العزاء حتى صلاة البخور في الكنيسة، كان الإعلام حاضراً في شتى التفاصيل. طُلب منه الابتعاد قليلاً عند دخول نعش الفقيد الكنيسة يوم الأحد، ولكن كانت له حرّية التصرّف، ولم تقتصر التغطية على لبنان بل رافق الوسوف في رحلته الأليمة إلى كفرون السورية.
التفاصيل الدقيقة التي دخل فيها الإعلام، لامست حدود خصوصية الحزن لدى أهل الفقيد، وفرضت على الجمهور والمتابعين أجواءً كانوا بغنىً عنها مع رهانٍ على جهاز الريموت كونترول الكفيل بنقل التردّد إلى قناة أخرى ذات اهتمامات مختلفة.
الباحثة في علوم التواصل والإعلام د. مي عبد الله، ترى أن "الإعلام خرج عن دوره أثناء تغطية المراسم المتعلقة بوفاة وديع وسوف، حيث لا يمكنه أن يكون شريكاً في العزاء، ورسالته العامة لا تعطيه حق فرض الحزن على الناس".
ترى الأستاذة في كلية الإعلام والتوثيق أن التغطية التي "امتدّت ليومين كان مبالغاً فيها وحوّلت الإنسان بأحزانه إلى سلعة تجارية حيث هناك قضايا إنسانية وأخلاقية يجب أن لا يتخطاها الإعلام في فترات كهذه، وعليه ألا يستغل حزن الآخرين".
وبرأيها كان "من الأجدى اتباع الأصول، ومن باب الأمنية أن يُستصرح أهل الفقيد بعد فترة من الفاجعة وأن لا يُحوَّلوا إلى هدف إعلامي"، حسب تعبيرها.
الإعلامي والناقد الفني جمال فياض يثني على الدور الذي لعبه الإعلام اللبناني الذي "كان حاضراً بشكل كبير في التغطية"، ويعتبر ما قام به بشكل عام "كان على قدر من الاحترافية وهو لم يخطئ".
ويعتبر جمال فياض أن "الفنان جورج وسوف شخصية جماهيرية من الدرجة الأولى الممتازة، وهو محط اهتمام الإعلام في الأيام العادية، فكيف به حين يصاب بحادث أليم وفاجعة تمثّل محطة تاريخية في حياته؟".
لا ينفي وجود "بعض الهفوات التي تحتاج قليلاً من الحس الإنساني"، ولكن من غير المقبول أن "تكون سبباً كي نلوم أي محطة أو وسيلة جاءت لتنقل وقائع هذا الحدث التاريخي الكبير"، وفق رأيه.
بدورها الزميلة حليمة طبيعة من قناة الجديد تبدي حرصها على "احترام أخلاقيات المهنة، ومن كفرون (البلدة السورية حيث دُفن الفقيد) لطالما ذكّرت في البث المباشر بخصوصية أهل الفقيد".
وقالت: "لقد استفزني قبل يوم كيف كانت بعض المحطات تتدخل في خصوصيات أهل الفقيد، وأوافق رأي الفنانة هيفاء وهبي التي عبّرت عنه بكل احترام وامتنعت عن التصريح... أنا من جهتي خلال التغطية كنت أصف الشكل العام وأنقل مشاهداتي، أجريت مقابلات قليلة مع أفراد من قرية كفرون قبل وصول الجثمان، ومع الفنان وليد توفيق الذي كانت تربطه علاقة قوية بوديع".
تستذكر أداءً مماثلاً خلال تغطية طائرة كوتونو المنكوبة في كانون الأول 2003 ورحيل الفنان عصام بريدي في نيسان 2015.
تشرح رلى مخايل تغطية وقائع مراسم عزاء وديع جورج وسوف وترى فيها "تعدّياً على حرمة الموت وانتهاكاً للخصوصية وعدم عقلانية، حيث ركزت وسائل الإعلام على حادثة مؤلمة وأولتها مساحة إعلامية على حساب كثير من القضايا التي تهم الناس اليوم"، حسب قولها.
وطالبت وسائل الإعلام بإعلان مجموعة من المبادئ وميثاق شرف يرعى مهنية التغطيات الإعلامية. ورأت أن على الإعلام اللبناني أن يحدّد قواعده المسلكية المتعلقة بتغطيات من هذا النوع، وأن يكون أكثر عقلانية في تغطية الحوادث المؤلمة، مستندة إلى شوائب شابت التغطية الأخيرة لناحية خرق الخصوصيات واستباق التحقيقات والتبعات النفسية وحالة التروما التي تشكلت لدى المشاهدين.
وقالت: "الإعلام اللبناني يلعب على الغرائز وخرق الخصوصيات ومن غير المقبول استصراح الناس وهم تحت تأثير الصدمة وفي حالة جزع".
مزايدات
من جهته، يرى الإعلامي سلام الزعتري أن "في التغطية الإعلامية خللاً في مكان ما أدّى إلى انتهاك الحرية الشخصية ولم يراعِ أخلاق المهنة".
ورأى أن "الإشكالية تقع في غياب بروتوكول معتمد من قبل الجسم الإعلامي في تغطية هذه المناسبات". وبرأيه، فإن بعض المراسلين أو المصورين يضعون جهدهم أحياناً في الحصول على خبر دون الاكتراث للّحظة المناسبة.
كشاهد عيان وكمتخصّص في الإعلام، يتحدث سلام عن "مشاعر كبيرة وفوضى بين الإعلاميين عبر انتشارهم بين داخل الكنيسة وخارجها بغية استصراح المعزين، وكان بالإمكان تحديد نقطة واحدة يقف فيها كل المراسلين كي يتحدثوا مع الحضور أثناء دخولهم أو خروجهم". ويضيف: "العزاء أمر شخصي، واستصراح المشاهير يجب أن يكون بطريقة منظمة وبعض الصحافيين كانت طريقتهم سيئة".
يبرّر سلام الزعتري الاهتمام الإعلامي بوديع جورج وسوف لكونه شخصية محبوبة ومعروفة من قبل الجميع، وهو نجل فنان كبير استثنائي، و"لكنه لا ينكر أن الأمر شابه بعض المزايدات في تغطيات كان هدفها بيع المضمون".
تبقى الإشكالية مفتوحة بين التغطية المتعلقة بشخصية مشهورة لها محبّة كبيرة في قلب الجمهور، وبين اختراق الخصوصية في طريق اللهاث الى "الترافيك".
وهي إشكالية توّلد سؤالاً حول إمكانية الموازنة المهنية بين إنتاج مضمون رصين ومثير لاهتمام الشريحة الأكبر من القراء والمتابعين والمشاهدين، في آن. سؤال مفتوح في عصر "النيو ميديا"...