أن تجلس مع السيدة ماجدة الرومي فرصة من العمر. هيبتها الرقيقة تجرّدك من الحسّ الصحافي، فتقرر بإرادتك إغفاله وتختار تذوّق تجربة استثنائية، إنسانية بحتة. ابتسم لي الحظ ووضعني القدر إلى جانب الماجدة على مدى ثلاثة أيام ذهبية خلال حفلها الأخير في الرياض، فسمحت لي، بتواضعها العفويّ، الدخول إلى مدرستها الملكية بعيداً من أي بروتوكول.
في مجلسها، تتيقّن أن مصطلح فنّان ليس "ترنداً". فالفنان، كالماجدة، قدير في مسيرته الفنية ومقّدر للمحبة، فلا يتكابر عليها، بل يجلّها ويسعى لصونها مهما علم بثبات مكانته في قلوب جمهوره. الفن لها مغنىً وروحاً: "صعب أن تقولي لفنان: لا تغنّي، وكأنّك تقولين له: لقد انتهيت".
بدأت الرومي استعداداتها من بيروت لليلة الثالثة من "مهرجان الغناء بالفصحى" (5 تشرين الأول الجاري) أطلقته وزارة الثقافة السعودية، وأصرّت على عدم الاكتفاء ببروفة يتيمة على مسرح أبو بكر سالم، بل وقفت مجدداً قبل ساعتين من حفلها على المسرح، واضعة لمساتها الأخيرة على كل نفس موسيقي بتنسيق احترافيّ مع المايسترو، لبنان بعلبكي.
تقول لـ"النهار": "الحفل مختلف في مضمونه، لا سيّما أنّه معدّ للإضاءة على القصائد المغنّاة. أخذ الحفل مستوى ثقافياً عالياً جداً، لا سيّما وأن هناك شريحة محدّدة من الجمهور محبّة لهذا النوع من العروض الفنية، في ظل عدم استذواق القصائد المكتوبة بالفصحى، بكل أسف، رغم تضمّنها روائع... هو بكل تأكيد ربح كبير، ومن يحب القصائد سيكون قد شاركني في الحفل شعور الفرح الذي خضته لأنّه يحسّ بوقار الوقفة وقيمة المضمون المغنّى، لا سيّما المحتوى الموسيقي".
لن تكون محطّة واحدة للرومي في هذا النوع من الحفلات بل "سيكون لي دائماً محطات مع القصائد العربية المكتوبة بالفصحى، لكن لا أستطيع أن ألزم برنامجي الفني دائماً بالقصائد الفصحى، فهناك من الجمهور الذي يحب اللهجة اللبنانية. ومع ذلك، أنا شخص يتذوّق القصائد العربية المكتوبة بالفصحى، أحبّها، وأجد كنوزاً في كتب الشعر العربي".
في رأيها أنّ "لغتنا العربية الجميلة اليوم إلى تراجع أمام اللغات الأجنبية سواء الانكليزية أو الفرنسية. لماذا هذا التقصير؟ أحزن بسبب قلّة التقدير لأصالتنا وتراثنا ولغتنا وهويتنا. المجد كلّه استيقظ في هذا الشرق وتوزّع على الدنيا كلها. هل أصبحنا نستورد الذي صدّرناه؟".
الجمهور ينتظر بشوق جديد الرومي في "عندما ترجع بيروت" للشاعر الكبير نزار قباني. العمل لحّنه يحي الحسن ووزّعه ميشال فاضل وانتهت الرومي من وضع صوتها عليه. أما تصويره فسيدخل حيّز التنفيذ قريباً.
تقول: "في ما يتعلّق بالكليب، أريد أن أحقق أبسط فكرة، على قد بساطك مد إجريك. الظروف في لبنان صعبة، والمواطن متألّم. وعندما أؤكد وقوفي مع الناس في الخندق نفسه، أعني ذلك ولا أريد أن أتخطّاه. أنا من الناس المتألّمين، ولو قُدّمت لي أموال الدنيا كلّها لا أستطيع أن أخرج عن جروحات اللبنانيين لأنّ المقصود في هذه القصيدة الأخذ في الاعتبار جروحات وجع بيروت".
كلام الرومي ليس جديداً. في كليب "الحب والوفاء"، إحدى روائع الشاعر الناصر التي لحّنها عبد الرب ادريس، أطلّت حينها بعدسة المخرج سعيد الماروق من هنغاريا مجسّدة قصة المرأة العاشقة لرجل لا مبالٍ لا يستحق هيامها. إطلالاتها المخملية تجسيداً لدورها، دفعها بعد هذا العمل إلى اتخاذ قرار لا يزال سارياً معها إلى اليوم: "منذ ذلك الحين أرفض ارتداء الفرو وإن توفّر أمامي أفضّل التبرّع بأمواله. الإنسان وصحّته أولوية على المظاهر الزائفة، وأشعر بالخجل من نفسي إذا خرجت عن صورتي الحقيقية. إجريي عالأرض".
هي فنانة بحجم دولة، أنارت "طريق الموت" التي قتلت الفنان جورج الراسي والشابة زينة المرعبي: "أشعر أنني مسؤولة عن وطني، وما حصل حرقلي قلبي لأنّه كان في الإمكان تلافي حصوله بأمور بسيطة جداً، وإنقاذ حياة أشخاص. ثمانية أشخاص ماتوا قبل جورج وزينة، وما قمت به يتعلّق بي. هي صلاة لراحة أنفس الناس الذين ذهبوا ضحية هذه الطريق التي أتت بمثابة فخ لهم. هي صلاة لربّنا كي يحمي المواطنين الذين يسلكون هذه الطريق في هذه العتمة الفحمة الموجودة في طرقاتنا. والله حرام، جميعنا لدينا أولاد، ألا تستدعي هذه الطريق صحوة ضمير؟".
عندما يصدح صوت الرومي في "بيروت يا ست الدنيا"، نبكي معها حرقة على لبناننا. نسألها إن كانت مؤمنة بقيامة قريبة للبنان؟ تحدّق لثوانٍ، ثم تجيب: "تعبنا من كل ما حصل، جميع حروب الدنيا تنتهي إلا الحرب عندنا. منذ العام 1975 إلى اليوم ننتقل من حلقة إلى أخرى، كمسلسل قصصه مفتوحة لا تريد الوصول إلى نهاية. رح يخلص العمر، ولم تنته فصولنا وصفحاتنا. الموضوع يؤلمني، لأن هناك سفراً في كل شيء، سواء في تشرذم العائلات اللبنانية التي أصبح من الصعب أن نراها مجموعة تحت سقف واحد. فبدل أن ينشغل المرء في البحث عن وسيلة للفرح في هذه الحياة، ننشغل بتفاصيل المولّدات الكهربائية والمياه والمدارس وتأمين الأقساط. أصبحنا في غربة عن الحياة. نحن في سفر وقدر صعب".
لكن "في نهاية المطاف، يجب أن ينتهي ما يحصل لنا. قدرنا السيّء أننا أتينا في مرحلة صعبة للغاية، لا أعتقد أن من تسببوا بالخراب الذي نعيشه منذ عامين إلى اليوم وفقدان المواطن جنى عمره هدفهم يوم أجمل على اللبناني. ما أشعر به غير مطمئن، ولم أعد أقرأ الأحداث كما يقرأها الآخرون. قد لا يكون الخلاص على وقتنا، لكن لا بد من أن يأتي في وقت من الأوقات".
اختارت الرومي أن تكون قريبة من اللبناني وكل عربي موجوع، فكانت دواء يداوي القلوب المضطربة. استوقفتها معجبة سعودية اعترفت لها بفضلها الكبير لخروجها من حالة نفسية لازمتها لسنوات، حتى أنها حفرت توقيع الماجدة على معصمها. غمرتها وشدّت على يديها، فوصل صوت فنانة متصالحة مع الحياة تهمس بما تؤمن به: "قد ما فيكي تسهلي الحياة سهليها".