تشرّف مسرح "مونو" في الأشرفية بتجديد اللقاء مع الكوريغراف والراقص والمخرج اللبناني عمر راجح في عمله الجديد "الرقص مش إلنا". فطعم هذا اللقاء تخطّى موضوعه تقديم عمل فنّي عميق، وكان بمثابة تكملة حوار قديم لم ينتهِ، حيث جهد وشريكته ميا حبيس على استكماله بأبهى المعاني.
على مدى 60 دقيقة، أطلّ عرّاب الرقص المعاصر اللبناني عمر راجح وأطلق العنان عبر إيقاعاته الجسدية لكل شيء. فهذا الشيء يعني له ولجمهوره المشاهد الكثير لأنّ فيه الماضي والمستقبل، القمع والحرية، الاستسلام والنهوض، الأرض والهوية، الانكسار والطموح، الألم والأمل، الفوقية والتطور وفهم الذات.
أطلّ، الحائز على وسام الآداب والفنون الفرنسي برتبة "فارس"، من بيروته بعدما غاب عنها وقرر منذ ثلاث سنوات المكوث في ليون الفرنسية، ليس بهدف الهجرة وإنما لأجل المسيرة التي عاش لأجلها على مدى 20 عاماً.
استهلّ العمل بدردشة صوتية مع جمهور وجد نفسه جزءاً منه، إضافة إلى بيانات مكتوبة على شاشة خلفية باللغتين العربية والانكليزية، كانت بمثابة ملحوظات عددت زمنياً ما مرّ به شاب طموح آمن بفنّه رغم التصنيفات والعثرات والظلام التي أجبرته على وضع خطط حياتية كثيرة تنقّل من واحدة إلى أخرى كي يصل إلى سبيله المرجو.
خشبة مسرح "مونو" أتت حقيقية من دون قناع، زيّنتها طاولة عليها حاسوب وكرسيّ يتيم تربّع في الوسط، فيما افترش راجح المسرح بشتلات الحبق الساكنة وجدانه، والتي فكّت شيفرة العرض، فالإنسان بلا جذور لا هوية له، ولأنّ صاحب هذه الهوية ليس عابر سبيل فيها، أراد مصارحة جمهوره بتجربته الحيّة، لأنه كما يقول: "الماضي يبحث عن قصة كي يكمل قصة المستقبل".
أعطت موسيقى الألماني جوس ثورونبول بإيقاعاتها الإشارة المنتظرة لراجح كي يبدأ عرضه، ترجّل من على الكرسي ليستيقظ معه جسده ونَفَسه بتكنيك حركي تارة متوازن وتارة أخرى مضطرب. فقمّة الألم أن ترى أمامك عزيزاً يتألم ولا تستطيع أن تحرّك ساكناً، عندها يصبح الألم مضاعفاً ويولد منه "ألم العجز".
أمام ما قدّمه عمر راجح من طاقات تعبيرية قويّة شهدنا فيها على الكثير من الاضطرابات وحالة الضياع التي غزت حياتنا، رأينا الثورات فالخيبات، والحرية التي قُمعت ودفع ثمنها الكثير بالتعذيب والإسكات. وكل قطرة عرق خرجت من جسد عمر وهو يفنّد لنا ما مرّ علينا من ماضٍ أليم، كانت تقابلها قطرة ندى تخفف من وطأة الجهنّم التي نحن فيها. وبعد كل نداء ثوري خائب كنا أمام الدبكة الفولكلورية التي قدّمها عمر بمدرسته الخاصة، حتى إننا أردنا مشاركته الدبكة لأننا نحب الحياة فعلاً وليس قولاً.
ما قدّمه عمر على مدى ثلاثة ليالٍ (8، 9، 10 حزيران الجاري) في مسرح "مونو" كان تطهيراً للروح الموجوعة، وما خرج من جسده كان دواءً وصفته الأساس من صنع راجح نفسه الذي أبى أن ينتهي اللقاء من دون عيّنة من العلاج الصحيح الذي يمكن أن يقدّم الشفاء، إذ أعطى كلاً من في المسرح نبتة حبق.
المحطات الموسيقية في العرض كانت جميلة وهادفة، بدأت طريقها مع جوس ثورونبول وأكملت مع اللبناني شربل الهبر، عابرة نحو أسمهان ونصري شمس الدين، إذ ذكّر من خلالها عمر بالرفض الذي لقيه حينما قرر أن يكون راقصاً "الرقص مش إلنا"، ذكّر بإنجازاته كمؤسس فرقة "مقامات" و"مهرجان بيروت للرقص المعاصر – بايبود"، ومرّ على إنجازاته في "بيروت صفرا"، "حرب عالبلكون"، "اغتيال عمر راجح"، "مئذنة"، و" Union". وأعاد ذكرى اليوم المشؤوم حينما أعلن عن إقفال "سيتيرن بيروت" لأنّ "ثقافة الرقص المعاصر مش إلنا"، لكنّه وفي التعداد الزمني المترنّح نزولاً وصعوداً تقصّد إيصال النفس المستقبلي المتعلّم من الماضي والرافض للفوقية والتصنيفات لأن "الحياة إلنا"، "المستقبل إلنا"، "الأمان إلنا"، "الأحلام إلنا"، "الهوية إلنا"، و"الوطن إلنا".
"بيروت مدينة الكوارث" التي أراد راجح أن يتبارك منها في عرضه المسرحي الأول، غادرها بغصّة كي يكمل رحلته الفنية العالمية مقدّماً فيها جديده "الرقص مش إلنا"، ومكمّلاً عروض "بيتنا" التي لا تزال تجوب العالم، تاركاً لنا رائحة الحبق الشاهدة على لقاء ليس بعابر مع بيروته.