النهار

"النار بالنار"... نصف الحقيقة فقط
"النار بالنار".
A+   A-
إيمان إبراهيم

شارف مسلسل "النار بالنار" على نهايته ولم نعرف بعد أي رسالة يريد المسلسل إيصالها.
 
العمل الذي نجح في شدّ انتباه المشاهدين اللبنانيين والسوريين معاً، منطلقاً من واقع يعيشه لبنان الرازح تحت حملٍ ثقيلٍ، زاده ثقلاً وجود أكثر من مليوني نازح في البلد، لم يضئ سوى على جانبٍ واحد من المعاناة المشتركة. ماذا يقول اللبناني عن السوري؟

شخصيتان تختصران وجهة النظر اللبنانية المعادية للنازحين، عزيز (جورج خباز) الذي فقد والده خلال الحرب الأهلية على حاجزٍ سوري، يحمل حقداً موروثاً على السوريين أفراداً وجماعات، وسارة (زينة مكي) التي تحمل نزعة عنصرية ضدّ السوريين، فجّرتها في وجه مريم (كاريس بشار) التي تشاركها المنزل. لا خلفيات لأسباب حقد سارة على السوريين، أو أقلّه لم يكن ثمّة ضرورة للتبرير.

مقابل هاتين الشخصيّتين، يبرز جميل، اليساري المسحوق فكرياً وعاطفياً، لم تنهزم إنسانيته أمام سلسلة الهزائم، يدافع عن السوريين النازحين في لبنان، حجّته في إقناع أصحاب النزعة العنصرية ضعيفة، ينطلق من مبرّر إنساني دون أن يجيب عن السؤال الأهم: لماذا انتهت الحرب في سوريا ولا يزال في لبنان الذي يعاني أسوأ أزمة اقتصادية مليونا نازح؟

لكن ماذا يقول السوريون عنا؟ ما وجهة النّظر الأخرى وكاتب المسلسل ومخرجه سوريّان؟ كيف يتعاملون مع نظرات العنصرية التي تطاردهم؟ ولماذا لا يعودون إلى بلدهم ويرضون بالعيش في حيّ متهالك يفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة الكريمة؟

أسئلة كثيرة تدور في أذهان اللبنانيين، لم يجب المسلسل عن أيٍّ منها، اكتفى بكشف نصف الحقيقة فحسب.

في المقابل، لم نشاهد في المسلسل سوى نماذج سيّئة للسوريين، من شأنها أن تعزّز النزعة العنصرية اللبنانية أو تبرّرها. عمران (عابد فهد) المرابي الذي يستغلّ حاجة الناس، يقطع عنهم نور الكهرباء وحتى الهواء، يسيّر الحيّ على مزاجه، نموذج يصلح لأيام الثمانينيات والتسعينيات عندما كان السوري مسيطراً في لبنان. التبرير الدرامي أنّ عمران يحمل جنسية لبنانية في مرسوم التجنيس المشبوه الصادر عام 1994 ليس مقنعاً.

نكتشف في حلقات متقدّمة أنّه ليس مرابياً فحسب بل يتاجر بالأعضاء مجرّداً من الإنسانية، لم يهزمه سوى حبّه لمريم.

الدكتورة تفيدة (هدى شعراوي)، هي ليست طبيبة، بل سيّدة تدير منزلاً للقمار، تشارك عمران الأرباح وتستغل إدمان بعض سكّان الحيّ على القمار لسلبهم أموالهم وإغراقهم في الديون. قال كاتب العمل رامي كوسا إنّ هذه الشخصية ليست موجودة في النص الأصلي، أضافتها إلى العمل ورشة الكتّاب والمخرج، وجودها مثل عدمه، اقتطاع مشاهدها من المسلسل لا يؤثر في السياق الدرامي.

أبو الرضا (جمال العلي) الرجل الذي يؤجّر شققاً في الحيّ، ويستغل المستأجرات بأبشع الطرق، شخصية مستفزّة مغمّسة بالشر.

بارود (تيم محمد عبد العزيز) صبي لا أهل له، يسير مشرداً في الطرقات يبيع اللوتو، لا نعرف خلفيات الشخصية التي قال كاتب العمل إنّها كانت هامشية، تمّ تمديد مساحتها لأنّ تيم ابن المخرج فحسب.

حتى مريم، لم تنجُ من الخطيئة، تتأرجح بين الخير والشرّ، تغلبها ظروفها، جاءت إلى لبنان بطريقة غير شرعية لتسافر في مراكب الموت إلى أوروبا، بعد خطف زوجها وقتله في سوريا. رفضت الأمم المتّحدة في لبنان طلبها، حتى مراكب الموت لفظتها ووجدت نفسها تصارع ظروفها، بين رغبتها في الخلاص من هذا الواقع الأليم، واضطرارها إلى البقاء في لبنان تتجرّع الإهانة، عرضة للاستغلال حتى من أبناء بلدها.

يعرض المسلسل يوميات أهل الحيّ، لا أحداث مشوّقة، لا عقد ولا حلول، لا شيء سوى يوميات هي الحدث والعقدة والحل. يثلج العمل في مكانٍ ما القلوب، أنّ الأمر يحتاج دوماً إلى تخطّي فكرة الحكم على الجماعات والنظر إلى الأفراد كشخصيات منفردة، بعضها لم يشارك يوماً في الحرب، لم يشأ أن يترك وطنه يعاني، ولا أن يكون عبئاً على بلد حتى أبناؤه عبءٌ عليه، لم يقرّر مصيره بل تم تقرير مصيره فاستسلم ولم يعد يقاوم.

يفتح عزيز عينيه على حقيقة أنّ مريم ليست هي من خطف والده، وأنّها بعيداً عن جنسيتها والبيئة التي جاءت منها تشبهه إنسانياً. حاجز الحقد يسقط عندما يكتشف اللبنانيون والسوريون أنّهم ضحايا لمنظومة واحدة أمعنت بهم تنكيلاً، لم يكن ثمّة مبرّر درامي لانعطافة عزيز، لكن لا بأس إن كانت النيّات صافية.

في الحيّ الفقير يعيش اللبنانيون والسوريون جنباً إلى جنب، يتشاركون اليأس والبؤس، المسلسل رغم عمق الحوارات المباشرة، ظلّ موارباً ولم يجب عن الكثير من الأسئلة المطروحة. ميزته أنّ شخصياته من لحمٍ ودم، شخصيات حقيقيّة، تخبرنا أنّ اللبنانيين توارثوا حياة البؤس منذ عقود، وعندما نزح السوريون إليهم جعلوا من النزوح شمّاعة يعلقون عليه خيباتهم وفشلهم في بناء وطن، وأنّ السوريين جاؤوا إلى لبنان هرباً من الحرب، بعضهم ركب مراكب الموت لينجو بنفسه، وبعضهم استسلم لفكرة أن يكون نازحاً في بلدٍ لا مستقبل فيه.

يبقى أن نشير إلى براعة الممثلين الذين قدّموا أداءً مذهلاً من عابد فهد إلى جورج خباز وكاريس بشار وزينة مكي وطارق تميم وساشا دحدوح، المسلسل إنتاج شركة الصباح، كتابة رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز.


اقرأ في النهار Premium