عند الثامنة والنصف من مساء الأحد، وأمام المشهد المعتم الذي يخيّم يومياً على شوارع بيروت، وُجدت بقعة ضوء كبيرة في "فوروم دو بيروت" جذبت إليها أعداداً غفيرة من اللبنانيين ومحبّي الإبداع الفكري. الوجهة هذه المرّة لم تكن مهرجاناً انتخابيّاً، بل حفلة فنيّة، حيث الاستمتاع بـ"ليلة أمل" مجّاناً، وخطابها الأوحد قائم على كلمة واحدة: لبنان.
(نبيل إسماعيل)
فبعدما أساءت السياسة إلى الصورة الحضاريّة لهذا البلد، أعلنها المؤلّف الموسيقيّ أسامة الرحباني ثورة ثقافيّة فكريّة فنيّة لإعادة بناء ما دُمّر؛ والأمل كبير بوجود مفكّرين ومبدعين لا يزالون يملكون هذا القلب الانتفاضيّ الثائر بوجه كلّ حاقد على مدينة بيروت.
في حفل "ليلة أمل"، اعتلى الرحباني المسرح وصدح صوته: "من حقّنا أن نقدّم فنّاً ونظلّ منارة مختلفين عن جميع الناس، لأنّنا الوجه الذي يجعل لبنان مختلفاً تماماً بفضل مبدعيه من الفنّانين والمفكّرين والمثقّفين، في ظلّ غياب أيّ خطة في المستقبل أو رؤية من أيّ سياسيّ تخصّ هذا الأمر، الذي هو الأقوى في العالمين العربي والغربي، والذي يُبدع فيه جميع اللبنانيّين"؛ ولذا: "قرّرنا أن نستمرّ ونقاوم مقاومة ثقافيّة فكريّة وفنيّة".
الإرادة وجدت بين الرحباني والفنّانة هبة طوجي لتقديم حفل في "فوروم دو بيروت". وكان الإصرار على جعل الحفل مجانيّاً "نكاية" بكلّ من يسعى إلى تغييب الثقافة والفكر والفنّ، على حدّ تعبير الرحباني، الذي أكّد وجود محاولات لقتل الشعب اللبناني من خلال قتل ثقافته وفنّه، مبدياً استغرابه بالقول: "كنتُ أتمنّى أن أجد في البرامج الانتخابية للمرشّحين زاوية مخصّصة للثقافة والفنّ"، متسائلاً: "إن لم ندافع عن الثقافة والفن، فعمَّ سندافع؟".
الصوت الذي صدح به الرحباني من موقع كان شاهداً على أوجاع اللبنانيين في انفجار مرفأ بيروت، أكملته الفنّانة هبة طوجي بتأكيدها أن "واجبنا أن نستمرّ ونناضل، صراعنا وبقاؤنا هو لاستمرارية الفنّ والفكر والثقافة التي تغيب في ظلّ هذه الأوضاع. ولأنّ في كلّ خطوة نقدّمها نحاول أن نرفع رأس بلدنا في العالم، أتمنّى أن تكون الليلة ليلة أمل، وأن ننسى كلّ ما يحصل، ونعيش اللحظة. افرحوا معنا، وثوروا معنا، واغضبوا معنا".
نوستالجيا المشاعر انطلقت مع النشيد الوطنيّ، الذي قدّمته الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية، بتوزيع حرص الرحباني على أن يكون صرخة لا نشيداً وطنياً فحسب... "كلّنا للوطن"، لتبدأ الرحلة الفنيّة مع طوجي بأغانٍ وطنيّة ورومانسيّة وهديّة خصّت بها جمهورها بأغنية جديدة سيتضمّنها ألبومها.
وكانت إطلالة خاصّة لعازف البوق العالميّ إبراهيم معلوف، حملت في طيّاتها بُعدين: الأوّل قائم على تفاعل الجمهور مع هذه الطاقة الفنيّة الفريدة؛ والثاني يحمل غصّة بسبب حرمان لبنان من هذا الكنز الفنّي الذي يلقى تمسّكاً وتقديراً لا مثيل له في دول العالم.
مفاجأة الحفل كانت مشاركة الفنانة إليسا التي أكّدت أنّ "بيروت رجعت"، وقدّمت أغنية جديدة حملت توقيع الشاعر كمال قبيسي وألحان أسامة الرحباني. وكانت لفتة جميلة من الرحباني خلال الحفل، حيث وجّه تحية إلى روح الموسيقار إلياس الرحباني عبر ميدلي قدّمته إليسا مع طوجي للسيدة فيروز.
وقال أسامة: "ما يوجع أننا لم نتمكّن من وداعه بالطريقة التي تليق به بعدما زرع بأعماله البسمة والأفكار الجميلة التي وصلت إلى العالم. رحل لكنه لا يزال يعيش بيننا".
إليسا أيضا عبّرت عن سعادتها وفخرها بالمشاركة في هذا الحفل، مؤكّدة عودة بيروت إلى الحياة: "رجعت بيروت، ونريد أن نرى هذه المدينة دائماً هكذا، مدينة الحب والفن والموسيقى. هذا الحفل اليوم يُشكل انطلاقة لاستعادة بيروت التي نريد". كذلك وجّهت تحية إلى روح الموسيقار إلياس الرحباني الموجودة في كلّ لحظة سعادة وحبّ للوطن، معترفة بأنّها حقّقت حلمها الليلة بالوقوف على مسرح الرحابنة.
في ساعتين من الكرم الفنّي الراقي الذي قُدّم على الطريقة اللبنانية الأصيلة، نشطت مؤثّرات بصريّة، ورافقت فرقة استعراضية طوجي في "ليلة الأمل"... حفلٌ لا يجب أن يكون ليلة عابرة، بل عدوى ونداء في آنٍ معاً لكلّ مفكّر وفنان غيور على صورة لبنان، ليهبّ من أجل إنقاذ هذا البلد من الغرق في زورق الموت والجهل.