أمام المشهدية المؤلمة التي تشهد تصاعداً جنونيّاً في سعر صرف الدولار وأسعار المحروقات، مروراً بالقوت اليومي الذي أصاب حتى رغيف الخبز، نشهد مساراً تصاعدياً في إيلاء الاهتمام من جديد بالفنّ والموسيقى والثقافة في لبنان، والذي يكاد يكون الأمل المتبقّي لبلد سُلب مواطنوه من أبسط حقوقهم الحياتية وأُغرقوا في وضع اقتصادي معيشي مزرٍٍ، بات الباب الوحيد للهروب منه موقّتاً، عبر العيش في انفصام معنويّ لم يعد موجوداً إلّا في الفن والموسيقى.
حسناً ما فعلت السفارة الأميركية في لبنان، بتخصيصها أمسية شهرية بعنوان "لقاء مع فنان" (Meet the Artist)، ينظّمها قسم الشؤون الديبلوماسية، حيث سبق أن استضافت السفيرة دوروثي شيا الفنان التشكيلي رؤوف رفاعي والمخرجة والناشطة زينة دكّاش والمؤلّف وعازف البيانو جورج طنب بعيداً عن السياسة.
(حسن عسل)
حلّ الفنان رامي عيّاش في الحلقة الرابعة ضيفاً، خفيفاً راقياً وعفوياً، في مقرّ السفارة، وقدّم أمام السفيرة الأميركية ملخّصاً عن صورة الفنان اللبناني الذي ينتهي به المطاف ليتكلّم بلغة المواطن وليس مجرّد فنّان يصدح بصوته الموسيقي.
حضور عيّاش المخضرم، أمام مجموعة من الفنانين والموسيقيين الشباب، حمل رسائل معنوية ومهنية، إذ أدار الجلسة بذكاء وحنكة مثقلة بالتجارب التي استطاع بثقته وطموحه أن يعبرها بنجاح، فكانت السفيرة شيا أبرز المستمتعين بتفاصيل هذه الشخصية الفنية الإنسانية.
حرصت السفيرة في مستهلّ الحلقة على الترحيب بعياش ودعوة الحضور للاستماع إلى تجربته، قائلة: "سنستفيد من حكمة رامي عياش في ظلّ حضور مواهب صاعدة."
وأكّدت شيا في حديث لـ"النهار" أنّ "إيقاظ الفنّ في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ بها لبنان أمر بمنتهى الأهمية، ولهذا السبب نقوم بهذه المبادرة... ليست مبادرتي فحسب، بل مبادرة زملائنا في السفارة. وأرى أنّنا اليوم نحتاج أكثر من أيّ وقت مضى إلى الفنون. وأعتقد أنّ الفنّ، سواء أكان عبر الموسيقى أم الرسم أو المسرح يساعدنا في بناء الجسور بين الناس والثقافات."
وقالت: "في عملي الديبلوماسي لا أركّز على معالجة مشكلة واحدة أو تحقيق هدف واحد. كما يُقال في المجال الأكاديمي، نحن متعدّدو التخصّصات، وبالطبع نهتمّ لموضوع البيئة الذي يأخذ حيّزاً كبيراً من وقتي. ولقد اهتممنا أيضاً بموضوع الانتخابات، التي أردناها أن تكون حرّة وشفافة بقدر المستطاع. وبالطريقة نفسها، نحن مهتمّون بالبيئة والفنّ والثقافة وكلّ ما يمكن أن يكون له تأثير على علاقاتنا الثنائية، ونريد بناء هذه الروابط وتعزيزها، خصوصا الآن، في الأوقات الصعبة التي يعاني فيها اللبنانيون."
عيّاش عبّر لـ"النهار" عن سعادته لاختياره ضيفاً في السفارة الأميركية، موجّهاً الشكر للمعنيين لتنبّههم إلى أهمية الفنّ والموسيقى في لبنان، موجّهاً دعوة إلى جميع السفارات إلى حذو حذو مبادرة السفارة والتنبّه للفنان اللبناني.
في مستهلّ الجلسة، أمتع عياش الحضور وأدى أغنيتين، وبعدها انطلقت جلسة من الأسئلة طرحها الحضور من المواهب الصاعدة أدارتها المسؤولة عن البرنامج جولي مراد، فكانت فرصة للتعرّف عن كثب على فكر عياش في الحياة، إذ قال بعد ترحيبه بالسفيرة الأميركية: "فخر لي كلبنانيّ أن أكون موجوداً هنا. شكراً سعادة السفيرة على هذه الدعوة التي أتت من خلفيتين: الأولى من "عياش الطفولة" ورامي عياش الإنسان الاجتماعي المتعلّق بجمعية تعلّم 2000 طفل في لبنان، والجزء الثاني من خلفية فنية"، مضيفاً: "هذه الدعوة تعني لي كثيراً لأنني أرى في هذه اللقاءات قدرة على البدء بإحداث تغييرات صغيرة ولكن مهمّة، من شأنها أن تسهم في بناء صورة جديدة للفنانين في لبنان والمواهب الصاعدة على حدّ سواء".
وشدّد عياش على أنّ "الموسيقى في لبنان هي المفتاح الذي طالما ساهم في إعلاء صورة هذا البلد، الفنّ والموسيقى والسياحة وليس السياسة وما يحصل في منطقة الشرق الأوسط. لقد ترعرعنا على صوت الرحابنة والسيدة فيروز، نحبّ مسارحنا ونشاطاتنا الفنية، هذا هو المفتاح الوحيد الذي من شأنه إعادة لبنان إلى الواجهة من جديد."
ووجّه عياش تحية إلى كلّ فنان لبناني يكافح من أجل البقاء على الساحة الفنية، وتوجّه إلى السفيرة قائلاً: "في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، أغنية ناجحة واحدة من شأنها أن تجعل الفنان يعيش النجاح طوال حياته، أمّا في لبنان، فعلى الفنان أن يسعى أسبوعياً ليحافظ على هذا النجاح مهما قدّم من رصيد فنّي ناجح، الفنانون اللبنانيون ترفع لهم القبعة."
وكشف عن السبب الشخصي الذي دفعه إلى تأسيس جمعية "عياش الطفولة"، مؤكّداً أنّ المفتاح الأساس لتوحيد الشباب والجيل الجديد في لبنان يكون عبر التعليم.
وهنا وافقته السفيرة دوروثي إذ "الأمر يختلف عن كون المرء فناناً، لكنّ القاسم المشترك بيننا هو الرغبة في استخدام مواهبنا وطموحنا وثقتنا بأنفسنا واقتناعنا بأنّه ليس علينا بالضرورة اتّباع الطريق الذي سلكه غيرنا، وعدم التسرّع في تحقيق الهدف والاستثمار في الذات بهدف استخراج الأفضل منّا". وعن التوازن بين الحياة الخاصّة والصورة العامة قالت السفيرة شيا: "أنا أحياناً السفيرة، الرئيسة، وأحياناً الصديقة أو الجارة، فلكي أنجح في لعب كلّ هذه الأدوار، أحتاج الى أن أكون حقيقية، طبيعية وصادقة مع نفسي.. إن كنت أريد الاختيار الآن، فأنا أوافق ضيفنا عياش على أنّ الاستثمار في التربية والتعليم هو أفضل ما يمكن أن نقوم به اليوم من أجل لبنان".
وختمت شيا: "سأشتاق الى لبنان ولكنّي سأكون في الوقت نفسه سفيرة للبنان في بلادي وسأحمل إليها الثقافة اللبنانية".
أمّا عياش فختم قائلاً: "أنا مواطن لبناني يريد أن يجلب كلّ عائد مادّي يحقّقه إلى بلده وليس العكس، بلدنا يحتاجنا، يحتاج المتعلّمين والفنانين والموسيقيين ورجال الأعمال والأدمغة. لا يمكن أن أتخيّل نفسي خارج بلدي، أنا رجل جبلي، متعلق بالأرض".