عبد الغني طليس
لا أعتقدُ أن هناك ملحّناً، إبنَ آمرأةٍ ورجُلٍ، في لبنان وربما في العالم كله، يتجرّأ على قول ما قالهُ الملحّن فيلمون وهبي: "إذا تعلّمتُ الموسيقى أصبح حماراً في التلحين". لم أقرأ هذا القول في المرويّات عن وهبي في الصحافة أو التلفزيون بل قالها لي شخصيّاً حين كان يُجيبني عن سؤال عن انتقاد ملحنين آخرين له بأنه ليس متعلّماً عِلْماً موسيقياً.
بسيطٌ جدّاً هذا الكلام وحقيقي، لكنه يفصِل في شكل حاد بين التلحين والعلْم الموسيقي. هذه نظرية معروفة في أغلب الفنون الشعبية. الزّجَل مثلاً فن يقوم على الموهبة في القول والحفظ والإرتجال، وبين أساطين الزجَل عندنا من كان لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك وصلَت أشعاره الزجلية في مستواها إلى ما يفوق بأشواط مستوى شُعراء زجَل يقرأون ويكتبون ويطرحون أنفسَهم مفكّرين اجتماعيين، لِكَون الزجل طالما تم التباري به، في الفِرَق المعروفة، على المنابر، وكانت مواضيعه المتضادّات: الخير والشر، الأمل واليأس، القلب والعقل... وهكذا. يمكنُ القراءةَ والكتابةَ أن تمُد الشاعر الزجلي بأفكار جديدة، وهذا أيضاً عرفناه مع بعضهم، لكنّ الأصل هنا الموهبة الفطرية التي تتسلّح بخبرات الحياة وتبتدع المعاني الجديدة مع اللاعلْم !
لكن عدم معرفة فيلمون بالعلْم الموسيقي لا تعني مطلقاً أنه لا يعلم بالأنغام والمقامات الموسيقية. يقول الدكتور وليد غلمية في هذا الخصوص: "فيلمون هو أكثر ملحّن فطري في لبنان لكن ألحانه تتميز بالذكاء المرَكّب والصعب والحسّاس الذي لا تصدّق أنه من شخص لا يعرف جانباً من العلْم الموسيقي". هذا هو فعلاً فيلمون، يعرف بشكل متميّز المقامات الموسيقية ويلحن على نظامها، وتَنقُّلُهُ بين الأنغام يتمتع بليونة صارخة خاصة به، تقاربُ الإرتجال المسبوك بإتقان، فالإنتقال من نغمة إلى أُخرى، سلِس ومُوحٍ وشديد التأثير العفوي في السامع الفطري، فكيف بالسامع المثقف موسيقياً الذي يجد في هذه العملية مرونة غير متوافرة بهذه البساطة لدى مؤلفي الموسيقى المحترفين، و"بتقْنية" حاذقة. فالأغنية على مقام "الرصد" مثلاً تمر فيها بين المقاطع جُملٌ على "الحجاز" أو "البياتي"، والأغنية على مقام "النهوند" قد يدخل إليها في أحد المقاطع مقام "العجَم" وغالباً من دون تقصُّد أو تَعَمُّل، لذلك حين نسمعها نشعر بلمسةٍ من التلوين الطبيعي الصرف. والأغاني التي يحدُث فيها هذا النوع من "الاختلاط" تتفوّق على غيرها في حبكتها اللحنية ومستواها الفني. وكل هذا يحصل عند فيلمون بالخبرة اللحنية وبالتعمّق في المقامات، برشاقةٍ عزّ نظيرُها .
فيلمون وهبي، في الأصل، كان مغنيّاً وعاشقاً التلحين، وكان يتنقل بين فلسطين (قبل احتلالها) وبيروت والقاهرة والشام، وعندما تعرّف على الأخوين رحباني، كان انسجام ومودّة وإعجاب جمعَها فيلمون في لحن أول أغنية أعطاه لفيروز "يا كرم العلالي"، وامتدّ عقد الأغاني، بعد ذلك، أغنياتٍ متتالية، كان يرى فيها عاصي تحديداً نَفَسَاً مختلِفاً عن نفَس الرحباني التلحيني ونكهة طربيّة واضحة وكامنة، بسيطة وعميقة، تُداخلُها أوجُه تشابُه بينها وبين الألحان الرحبانية، لكن يضاف إليها شيء غامض في جَمالِه .
بين فيلمون وعاصي حدثَت مبارَزة حبية حول الأغنية الشعبية، عندما لحّن فيلمون لصباح "دخل عيونك حاكينا" فسرَت سريان النار في الهشيم، فتحدّى فيلمون عاصي أن يلحن لصباح أغنية أقوى شعبياً، وما هي فترة زمنية قصيرة حتى لحّن عاصي لصباح "جيب المجوِز يا عبّود" التي اشتُهرت فوراً ورددها الناس، وظلّت صباح حتى آخر حفلات حياتها تؤدي هاتين الأغنيتين ويتجاوب الجمهور معهما كأنهما من صناعة البارحة .
"الشيء الغامض" عند وهبي الذي تحدّث عاصي عنه في إحدى المقابلات، هو المفتاح السحري في ألحان فيلمون. من اللحظة الأولى لسماع اللحن، أي من نوتات المقدّمة الموسيقية، وبمرور جملةٍ أو جُملتين من بداية الأغنية تعرف أن هذا فيلمون. طريقته في المقدمات الموسيقية لأي أغنية أنه يأخذ ثلاث نوتات، أي نقرات موسيقية من أوّلِ لحنِ كلمةٍ من الأغنية ويتحرك فيها بشكل مختلِف عن خط سير مطلع الأغنية ذاته، ويدور بالنوتات القليلة حول نفسه، ويدير الجملة الموسيقية حول نفسها، فتنتهي المقدمة عن أبسط وأصعب تركيب لحني، يظن السامع أنه سهلٌ وهيّن وبإمكان أيّ كان أن يعمل مثله، لكن عند التجريب ستجد أن النوتات القليلة التي يضعُها فيلمون في مكانها الصحيح ليس كتلك التي يضعُها أيٌّ كان غيره !
أبرز أغاني فيلمون وهبة كانت لفيروز أولاً. أكثر من ثلاثين أغنية لحّنها فيلمون فلم تسقط واحدة منها في البهتان أو الفشل. كلّها كلّها نجحت في سلْب الآذان والقلوب، وتمكنت من أن تخترق كل مسرحيات الأخوين رحباني التي كان عاصي ومنصور يتركان فيها، أغنية واحدة من كل مسرحية، ليلحنها فيلمون، ويلحنها، وتنال تأييد الجمهور وإعجابه ليس وقتَ عرض المسرحية فقط، بل في كل ما كان يأتي من الأيام.
ثلاثون لحناً لفيروز توزّعت خلال سنوات تقديم المسرحيات الرحبانية -الفيروزية، أمّا آخرُها فكان بعد خلاف الأخوين مع فيروز فكتب الشاعر جوزف حرب بناء لطلب فيروز ستّ كلمات أغان أُعطيَت لفيلمون، وفيها كان نجاحه القديم يتجدّد ويزدهر!
لحّن فيلمون لأغلب أهل الغناء، في لبنان، كبارهم والصغار، وأُعجب به العاملون في تأليف الموسيقى كما نقّاد الموسيقى الحقيقيون القلّة جداً، وتجوّلت ألحانه بين وديع الصافي وصباح وسميرة توفيق ونجاح سلام وملحم بركات، ولحنٌ واحد منه للمغنية المصرية شريفة فاضل باسم "حبيبي نجار" كوّنت لها جمهوراً واسعاً في بلدنا. وكان اسمه كافياً ليرسم لا الإكبار والإحترام فقط، بل أيضاً الإبتسام على الوجوه نظَراً لظرْفه ونكاته إنطلاقاً من حضوره كممثل كوميدي "مهضوم".
والكوميديا كانت موجودة في أغانٍ خاصة به كان ينشدها في الحفلات التي يقوم بمهمة تقديمها ومنها "كِشّو الدجاج" فضلاً عن أغنية انتقادية سياسية طبّقت شهرتها الآفاق في ختام الحرب الاهلية هي "سنْفرلو ع السنفريان" وآخر كلمة فيها شتيمة مدوّية في حق زعماء خربوا البلد !
من قفشاته الذكية الساخرة أن لحن "حبيبي نجار" سرقَه ملحن آخر مع إجراء بعض التعديل الطفيف عليه فصاح فيلمون: "سرقني... سرقني". وذات يوم التقى فيلمون بالملحن السارق في الإذاعة اللبنانية ونادى له من بعيد "تعا لشوف تعا لشوف" فأدرك الملحن أن فيلمون سيتهمه بالسرقة. تقدّم الملحن نحوَ فيلمون شاهراً ملامح عدائية، فأدرك فيلمون توتّره فقال له بابتسامة، متفادياً الموقف: "لا تواخذني يا خيّي سرَقتُ لك لحنَك".
وكما كان فيلمون موجوداً في كل مسرحية رحبانية بتلحين أغنية لفيروز، كان موجوداً أيضاً بتمثيل دور كوميدي لطيف، وأغرب ما في شخصيّته المحببة أنه كلما دخل إلى المسرح أحدث زوبعة من التصفيق والضحك العالي الصوت حتى قبل أن يقول كلمة. يكفي صوته أو شكله على الخشبة ليؤثر حبّاً وأُنساً بين الناس. لكنه كان أيضاً قادراً على سرقة الكاميرا ولَفت الإنتباه حتى مع وجود ممثلين محترفين كبار جداً كأنطوان كرباج، الذي في مسرحية "المحطة" مثلاً اضطرّ الى إصدار أصواتِ هَيصةِ ضحك غير مفهومة بعد دخول فيلمون إلى المسرح ليجاري خفة ظلّه المشهودة وتجاوب الجمهور معه. والتسجيل الصوتي للمسرحية واضحة فيه هذه الواقعة.
براعة فيلمون في تلحين الأغاني التقليدية الشكل (مذهَب ومقطعَان) وأغلب الأغاني على هذا النحو، لم تمنعه مطلقاً من تلحين أغان كانت كلماتها موزّعة توزيعاً نثرياً. "ورقو الأصفر" يقال إنها صعُبَت على زياد في التلحين، فسلّمتها فيروز لفيلمون الذي صنع لها لحناً إيقاعيّاً وهي "فالتة" الكلمات وزنيّاً وإيقاعاً شِعرياً، والسطور فيها تكبر حيناً وتصغر حيناً آخر، في طريقة مُحيّرة إلّا على فيلمون الذي طوّعها كعجينة بين يديه. "إسوارة العروس" كذلك، موزونة وفالتة السطور، ومركّبة تركيباً كثير الفواصل، ومع ذلك حرّكها فيلمون لحنياً بأسلوبه فأصبحت إيقاعية بامتياز. هذه نماذج فقط.
فطرة فيلمون التلحينية رافقته في كل مراحل حياته، وأغلب الظنّ أنه لم يفكّر يوماً في "تأليف" لحن، بقدر ما كانت ذاتُه الفنية تأتلف مع الجملة بالمصادفة… المتكرّرة، وكثيرة هي المرّات التي كان فيها في رحلات صيد، يقوّص الطيور ويسامر رفاقه، ومنهم نصري شمس الدين (وكانا يتبادلان كلٌّ مع الآخر لقب "الكذّاب") وفجأة يهبّ عليه لحن من غامض الغيب "ينزل" على كلمات يحفظها، ومطلوبٌ أن يلحنها فيختلي بنفسه لحظات لإنهاء اللحن وتسجيله على مسجّلة صغيرة كانت رفيقته الدائمة كي لا ينسى الألحان "الطارئة" (فهو لا يكتب النوتة كما ذكرنا)، ثم يعود إلى رفاقه يردد لهم ما لحّن، ويدور هرجٌ ومرْج بينهم.
على أن فيلمون وهبي لم يكن يعطي كل الأصوات التي يلحّن لها، الأهمية عينها. لحنُه لفيروز متميّز وباهر ربما لأنه كان يشعر بالمنافسة مع عاصي ومنصور على صوت فيروز. ألحانُه أيضاً لوديع الصافي كانت جميلة وبعضها خطير في جمالياته مثل "تبقو اذكرونا"، ولصباح حصّة كبيرة من جمال ألحان فيلمون. أمّا الكثرة الكاثرة فكانت ألحان فيلمون لها تتراوح بين الجيد والعادي. وثمة ما هو دون العادي حين تدعو "الحاجة". وينبغي القول إن ألحان فيلمون لم تميّز بين المغنين حسب شهرتهم بل حسب أصواتهم، والملحن عادة لا تأتي ألحانه لكل المغنين في مستوى واحد، وسواسية كأسنان المشط.
لا يعترف فيلمون بأنه تأثر تأثّراً جديا بملحن معين. يقول إنه حفظ الكثير من الأغاني المصرية القديمة، وحفظ الكثير من القدود والموشحات والأغاني الشعبية اللبنانية الفولكلورية النشأة، لذلك تسمع في ألحانه أصداء من كل هذا المزيج الجَمَالي اللبناني والعربي. جُملتُه اللحنية قصيرة، سريعاً تنتهي المقدمة وسريعاً ينتهي مطلع الأغنية وسريعاً تنتهي المقاطع، لكن هذه السرعة لم تمنع يوماً من أن تولَد أغنيتُه مشبعة طرباً وليونة وحيوية. "يا دارة دوري فينا"مثلاً أو "فايق يا هوى" لا يطول فيها النّفَس، أو يتمايل التأوّه أو التنهّد المعروف في الغناء العربي عموماً، بل تكرجُ على طريقة المختَصَر المفيد والسهل الممتنع مع الحفاظ على الروحية الطربية العميقة .
"ليلية بترجع يا ليل" هي أربع دقائق لكن أجمل ما يمكن من الروعة والإنسياب والطرب الشعبي تجده فيها. أغنيات كثيرة له "مُصابة" بهذا الفتون الذي يستلّ عناصره من القلب والوجدان فوراً من عُود فيلمون إلى فم المغني أو المغنية .
وكما ألحانه إبنة الفطرة الممتلئة شوقاً وحناناً وجاذبية، كان عزفُه على العود فطرياً، وبتحريك بعض الأصابع فقط كان يُفهِم المغني اللحنَ، وكان صوت فيلمون "الغنائي" في تحفيظ المغنين يزيد طين الغرابة والترَجرُج بلّة، لكنهم كانوا يلتفتون إلى غنى الجُملة وجِدَّتَها وعبورها السريع إلى الذائقة، أكثر من أدائه الصوتي "الفكاهي" حتى في التحفيظ !
وهناك من يوحي بأن كل لحن من فيلمون لفيروز كانت تدخل عليه يد الرحباني إمّا تعديلاً في المقدمة الموسيقية أو تغييراً في بعض الجُمل الداخلية، لذلك كان اللحن يَصدُر متكاملاً لا تشوبه شائبة ويستشهدون بأن ألحان فيلمون لغير فيروز كانت أقل مستوى من ألحانه لها، وأدنى درجة، مما "يؤكد" حسب وجهة نظرهم، مقولة تدخُّل الرحباني. ويستند البعض على تصريح سعيد وهبي بن فيلمون، بأن الأخوين "كانوا مرات يغيّرولو باللحن، ويزعل"، ولم يضِف أين وكيف وفي أية أغان تحديداً .
وأنا بما أعرف عن دقة عاصي ومنصور وتطلّعهما إلى الإتقان الكلّي في العمل الفني، أَقتنعُ بتدخلهما في أغنية معينة أو غيرها، بهذا القدر أو ذاك، من ألحان فيلمون لفيروز، لكنني لا أقتنع مطلَقاً أن هذه هي القاعدة، وإلّا فما سبب إصرارهما (إصرار عاصي أكثر!) عليه لتلحين أغنية في كل مسرحية إذا كانت تلك الإغنية سيعاد تلحينها أو تلحين بعضها من قِبَلِهما؟ وكان الإستغناء عنه سيكون ضرورة! وما قد يحصل مرة (التدخُّل) لا يعني أنه حصل دائماً. هذا فضلاً عن أن لحن فيلمون كان متميزاً عادة بروح مختلفة عن الروح اللحنية الرحبانية المسيطرة باعتراف كبار أهل الموسيقى من المؤلفين والملحنين والعازفين وأساتذة التحليل. لا فيلمون قال ذلك رغم خلافه مع الرحباني لخمس سنوات أخيرة، ولا عاصي ولا فيروز. فلماذا يتسلّح بعضهم بجملة غير واضحة التفاصيل لسعيد وهبي، ويتناسى آراء المعنيين مباشرة بالقضية؟ ناهيك بأن المعلومات الدامغة تقول إن فيروز كانت مُغرمة بألحان فيلمون. ولولا ثقة فيروز به لما اختارته من بين كل الملحنين بعد خلافها مع عاصي ومنصور آخر السبعينات ليلحن لها أغنيات جميلة، لا تزال جميلة ككل ألحانه، وناجحة ككل ألحانه، وقد حافظَ فيها على روحه الطربية الشعبية وحافظَت فيها هي على استمراريتها. فلو كان تدخل الأخوين في قديم ألحان فيلمون لفيروز صحيحاً وشاملاً، فأين كان عاصي ومنصور مع أغاني ألبوم "أسامينا" وهو في الزمن جاء بعد خلاف الرحباني- فيروز بسنةٍ على الأقل !
ذاكرة: أوّل أغنية سمعها محمد عبد الوهاب من تلحين فيلمون كانت أغنية "يا إمي دولبني الهوى" فظل صامتاً إلى أن انتهت فعلّق: "ده ملحّن نادر، ما عندناش في مصر متلو، لكن جبَان". وعندما سأله عاصي: "لماذا جبان؟"، أجاب عبد الوهاب "لأن جُملته قصيرة وما عندوش قدرة يطوّلها، فبيكتفي بيها بالشكل اللي جَت فيه" ثم أعاد الإستماع إليها متوقّفاً بتأنّ أمام نهاية المقدمة الموسيقية للأغنية: "ده تدرُّج بالنوتة رائع". ومنذ تلك الأغنية حافظ عبد الوهاب على رأيه بفيلمون وكرّره مراراً أمام من كان يسأل عنه بأنه "ملحن نادر".
إتّبَعَ فيلمون وهبي الجملة اللحنية القصيرة مع الأخوين رحباني اللذين شدّدا من بدايتهما على أن الأغنية اللبنانية لا ينبغي أن تقلّد الأغنية المصرية، لا في طولها ولا في مزاجها بل يجب تكريس الأغنية القصيرة، مع تحميلها ما ينبغي من المضمون الشّعري واللحني بالإضافة الى التوزيع الموسيقي المُهَندَس جماليّاً على مقاس الأغنية.
فهل يمكن القول إن الجُملة اللحنية القصيرة هي دليل ضعف أو وهَن أو نضوب طربي؟ قطعاً لا، فقد أصبحت أغلب الأغاني اللبنانية، وأخيراً المصرية التي تخلّت عن "الطول"، قائمة على هذه القاعدة المتناسقة مع الزمن المستعجل. ويمكن تشبيه هذه الجُملة بالجُملة الأدبية القصيرة. إذ هناك نوع من الكتابة الأدبية والنقدية في العالم اليوم يقوم على قِصَر الجملة التي لا تتجاوز الكلمات العشر أحياناً، ويظهر فيها التكثيف والخطف البرقيّ في التعبير من دون أن تنقص من قيمة المكتوب شيئاً. وكما أن الجملة الكتابية القصيرة لا تؤثر على المضمون، لا بل تحرّض القارئ على الإنتباه أكثر فأكثر، فإن الجُملة اللحنية القصيرة المكثفة بالإحساس الرفيع ستؤدي النتيجة نفسَها في إمتاع الجمهور .
لكن حذارِ. هناك جيل جديد من الملحنين يحترف التلحين ويصرّ على عدم دراسة الموسيقى تشبّهاً بفيلمون بالإسم، إذ ليس كل من دندن لحناً أصبح فيلمون، ولا كل مَن لحّن لغندورة كأنما لحّن لفيروز.
سُمّيَ فيلمون وهبي بشيخ الملحنين لتمييزه حتى عن ابناء جيله في سكب الألحان وطواعيتها وانتسابها المشَرّف إلى الهوية اللبنانية، لكن كُثُراً ما زالوا يتذكرون أنه كان حلّال المشاكل المتطوّع لإطلاق مواطنين كانوا يُختطَفون على الحواجز المنتشرة خلال الحرب الأهلية في البلد، وكان القاسم المشترَك في نظرة الأطراف المتصارعين إليه أنه "روح طيّبة وإنسانية عالية... وبس يوصل لعنّا كنا ما نشبع ضحك".
أليس غريباً ودليلَ عبقريةِ الحبّ عنده كفنان وكإنسان، أنه ملحن خفيف الظل لم يُرفَض له طلب عند كل ميليشيات الحرب في المطلَق؟