شهد المركز الثقافي الروسي في بيروت قبل أيام عرضاً مسرحياً على مدى ثلاثة أيام بعنوان "الغرفة رقم 8"، مقتبساً عن رواية للكاتب الروسي أنطون تشيخوف "عنبر رقم 6"، من كتابة سارة الزين وإخراج مشترك للمخرجَين رنين كسرواني وعلي رومية ومشاركة طلاّب هواة من أكاديمية "House of Arts" التي يديرها الأخيران.
توقيت عرض المسرحية وما تحمله من معالجات اجتماعية وإنسانية بحتة يحمل رمزية أكبر من مجرّد كونه عملاً مسرحياً بقالبٍ ورؤيةٍ إخراجية جديدين، خصوصاً بعدما جرى تطبيع القصّة لتنطق بالواقع المعاش. فمن المعروف أنّ مدرسة تشيخوف كانت تحاكي الإنسان المظلوم وتوصل مضمون الإزدراء والاضطهاد اللذين يعيشهما عبر أسلوب الكوميديا السوداء، لذلك كان الغوص في تفاصيل القصص المقدّمة أشبه بعرض شريط أرشيفي وواقعي في آن لإبراز المشكلات الاجتماعية والإنسانية والسياسية التي يتخبّط بها لبنان على وجه الخصوص.
إذن، "الغرفة رقم 8" موجودة في أحد المستشفيات المتخصصة بالأمراض العقلية، يديرها طبيب بسلطة قمعية، مسيطراً إلى جانب مساعده على "زمرة" من الأشخاص يقال إنّهم يعانون من علل واضطرابات عقلية أوصلتهم إلى سجن مؤبّد لا عفو فيه. ولكي تكتمل محاكاة الواقع، لجأ صنّاع هذا العمل إلى المسرح الرمزيّ، فكانت أمام المشاهد على خشبة المسرح محفّزات تحيي بعضاً من الأوجاع التي مرّ وما زال يمرّ بها لبنان: سريران بغطاء أبيض، ساعة بتوقيت انفجار مرفأ بيروت، حذاءان، دمية مشوّهة، ومقعد باللون الأبيض.
أمّا الشهادات المقدّمة، فخرجت على لسان كلّ مريض يقبع في المستشفى مشكّلة ملخّصاً عن الصورة الفعلية لمجتمعنا. هناك الرجل الطيّب الذي تخلّى عنه أولاده واختاروا له مستشفى الأمراض العقلية بدلاً من دار للمسنين كي يتهرّبوا من الالتزام الماليّ. وهناك من سقطت في جحيم عالم الـ "تيك توك"، والمجرم الذي يفلت من عقاب فِعلته بعد قتله حبيبته عبر الادّعاء بمرضه العقليّ متسلّحاً بـ"الواسطة"، وهناك الفنّان الذي واجه الفشل بعد تفشّي ظاهرة الهبوط الفنّي، وغيرها من النماذج التي في اجتماعها تشكّل عيّنة عن وباء اجتماعيّ يغذّيه شرّ القيادة والسلطة. ويحدث أن تسود في المستشفى انفراجة غير متوقّعة تكشف المستور، بعد أن يأتي طبيب جديد يرغب في إحداث التغيير المنتظر بعد اكتشافه أنّ مَن هم في الغرفة 8 لا يعانون في الواقع من علّة عقلية، وعندما يهمّ بخطوته الانتحارية، يدفع ثمنها باهظاً عبر إسكات روحه من قائد "مجنون" يستعيد زمام الأمور كسابق عهدها، ويفلح في كتم كلّ صوت داخل هذه الغرفة تجرّأ على رفع راية "ضدّ القمع" واعتبر نفسه إنساناً عاقلاً.
العمل المسرحيّ توقّف عند أدقّ التفاصيل الرمزية بدءاً من مضمون القصص المحكية وصولاً إلى المؤثرات البصرية عبر الإضاءة الخاصّة لكلّ مشهدية، والعناصر الجامدة التي تشكّل في حدّ ذاتها قصصاً صامتة.
توضح رنين كسرواني في حديث الى "النهار": "وقع الخيار على رواية "عنبر رقم 6" للكاتب الروسي تشيخوف لأنّها تشبه واقعنا في لبنان، حيث تدور الحوادث داخل مستشفى للأمراض العقلية. ومن وجهة نظري، أرى هذا المستشفى صورة مصغّرة عن لبنان".
وتلفت كسرواني في هذا الإطار إلى سبب انجذابها إلى الأدب الروسيّ في الأعمال المسرحية: "يعبّر عن الشعب الفقير المضطهد قبل حدوث الثورة في روسيا، وهو في تلك الحقبة التاريخية يشبه ما يمرّ به اللبنانيون اليوم. هذان الشعبان تربطهما الثقافة وحبّ الحياة، لكنّهما في الوقت نفسه يجتمعان على الفقر المعيشي وتسلّط الدولة عليهما، إلى أن حصلت الثورة في روسيا فيما لا يزال الشعب اللبناني يتخبّط في رحلة مواجهته القمع".
وتعترف كسرواني بأنّه خلال مشاركة الطلاب في هذا العمل وخلال مشهديات رواية كلّ منهم لقصته، "كنتُ أرى فيهم كلّ مواطن نزل إلى الشارع وطالب بالتغيير، وكلّ من وقف في وجهنا عندما كنّا نصرخ لأجل هذا التغيير. تملّكتني العبثية لدى مشاهدتي الطلاب في أدائهم المسرحيّ الأخير وخلال مرحلة تنفيذي للرؤية الإخراجية".
وتضيف: "المرضى الموجودون في المستشفى فعليّاً كانوا يعانون الانفصام، هم يريدون التغيير ويرفضونه في الوقت عينه، لكن في نهاية الأمر خرج للمرّة الأولى منهم مصطلح التغيير ولو تمّ إفشاله، وهذا يبشر بأنّ تغييراً آخرَ قادمٌ".
عناصر المسرحية لم تغفل الرابع من آب، وهو ما تلفت إليه كسرواني: "الرابع من آب أبشع ما يمكن أن يمرّ على لبنان لأنّه من أبشع الأمور التي مرّت علينا. الفنّ والتمثيل والكتابة والرقص تسمح لنا بـ"فشّ الخلق"، لأنّ غير ذلك يصبح عرضة للقمع والإسكات ورفع دعاوى القدح والذمّ والسجن".
"الغرفة رقم 8" من إنتاج كسرواني الخاصّ، وهي ليست المرّة اليتيمة التي تقدّم عملاً مسرحيّاً من إنتاجها الشخصيّ. وبعد العرض الذي تمّ في بيروت، تنطلق المسرحية قريباً في جولتها المناطقية خارج العاصمة، وتقول في هذا الإطار: "نعوّل على تعاون البلديات لتسهيل تنقّلنا في مناطق مختلفة".