قدّمت شركة الإنتاج ككلّ موسم رمضانيّ باقة متنوّعة من الأعمال التي تلاحق نصيّاً المظاهر المجتمعيّة والصحيّة والاقتصاديّة. ولعلّ البيئة الشاميّة التي تكاثرت أخيراً صورها باتت أوراقاً مكرّرة ممجوجة يستسنخ بعضها بعضاً وينافس تلفزيونيّاً بعضها بعضاً من خلال البحث عن الثغرات المهملة في كلّ عمل وعرضها على أساس التجديد. وهذا ما دفع المشاهد للهروب مجدّداً نحو الحاضر والبحث عن الأعمال التي تلاحقه. وعلى الرغم من أنّها قليلة، فإن العمل السوري - اللبناني المشترك "النّار بالنّار" (إنتاج شركة "الصبّاح إخوان) - تأليف رامي كوسا - إخراج محمّد عبد العزيز، قد تقدّم بصفته الهويّة الراهنة لشعبين متصاهرين بفعل الحرب أكثر ممّا هو بفعل التاريخ والجغرافيا. فالأزمتان اللبنانيّة والسوريّة والتحولات الفرديّة داخل المجتمع الواحد جعلتنا ننظر إلى هذا العمل بحلقاته الأربع على أنّه نصّ متحرك منسلخ عن العدسة واللون والمشهد والوقفة، خصوصاً أن الحيّ البيروتيّ حيث المزيج السوري اللبناني المحكوم بقبضة عمران، "بلطجي" الحيّ و"حاميه" ليس مجرّد فضاء مكاني مغلق، بل هو حكاية خريطة ديموغرافيّة ترسم تبعاً للشخصيّة ومدى استسلامها للتحوّل لتولد هنا الإشكاليّة: كيف تقدّمت الشخصيّة على الأداء؟ ولماذا تغلبّ العنف الحكائيّ على المسار التلفزيونيّ.
ثلاث شخصيّات مقابل ثلاثة نصوص
أربع حلقات من المسلسل الذي يُعرض على LBCI (سيناريو ورشة الصبّاح) كشفت عن أنّ رامي كوسا لم يختر تغليب الصورة على الكلمة، بل جعلها من الحلقة الأولى والمشهد الأول نزول عمران (عابد فهد) عن الدراجة لتقاضي الخوّة أمام منافسة نصيّة حادّة. فاللهجة الممزوجة بين اللبناني والسوري التي تفوّه بها عمران تقدّم دلالات عدّة ومنها إشارة الى الواقع الذي سنزحف نحوه حين يتقدّم عمران ومعه صبيّه نحو بيوتات الحيّ وهو حيّ بيروتي معدم مكتوب على وجوه قاطنيه الطاعة والاستلاب والاستسلام. يحاول عمران أن يقدّم نفسه تبعاً للنص المكتوب له على أنّه جامع الخير والشر والقوّة والشفقة الزائفة خاصّة حين يتصادم مع جورج عزيز (جورج خبّاز) الذي يترجم بهدوء وعقل حقده العرقيّ على السوريين بعدما أصبح والده الموسيقي مفقوداً.
انطلاقًا من التصادم الحاصل بين الطرفين المهيمن والمتمرّد، نلاحظ أنّ النّص تفكّك بالمعنى الإيجابي وخرج عن كلاسيكيّته المنتظرة ليصبح نصيّن لا خطابين، نصّ عمران المبنيّ على السيطرة والانتقام والاستبداد وحبّ المال "وسخ الدنيا هيّ لي بتنضف البني آدم" (عن الشخصيّة في إحدى الحلقات-بتصرّف) ونصّ المتمرّد الهادئ المحرّض على مشهديات حركيّة أكثر يمثلها عزيز بشخصيّته المتعلمّة الرافضة لما آل إليه حيّه. ونقول نصان لأنّ مفردة النّص في التاريخ القديم تعني ما كتب ليمثل جماعة أو أمّة (النّص القرآني، النّص التوراتي إلخ...) ولو أنّ هذا التصادم بين عمران وعزيز تأخّر فضلاً عن فرضيّة تفعيل سلطة وقوّة الشخصيّات المساعدة لكل طرف نتحدّث عن جميل (طارق تميم) اليساريّ المُعدم ماديّاً و سارة (زينة مكي) المكبّلة بالعلاقات الجنسيّة المنصرمة وبسلطة أبو رضا (جمال العلي).
أما النّص الثالث الذي ولّده الكاتب، فنبع من دخول كاريس بشّار (مريم) السوريّة النازحة بطريقة غير قانونيّة عن طريق أبو رضا (سمسار جبران) ليولد العنف مع سارة (زينة مكّي)، ويظهر النّص الثالث متماسكًا تحت عنوان "التعالي النسوي والتمييز العرقي المناطقي" فاستبداد سارة المتعلّمة الى حدّ ما - الهاربة بجسدها الراضخ لذكوريّة أبو رضا خوفًا من الفضيحة - تجاه مريم الهاربة من واقع مأزوم لكنّه مجهول التفاصيل حتّى الآن، يضعنا أمام تساؤل نقديّ: لمَ غلب العنف على شخصيّة مظلومة تجاه أخرى؟ وهل القصد هو إظهار واستعراض القوّة بين ضعيف تجاه آخر أم هي محض ردود فعل؟
لا شكّ في أن النصوص الحواريّة الثلاثة ستتطوّر بقدر تطوّر الأحداث وتماهي الشخصيات معها، لكنّ الرهان يبقى على مدى قدرة النّص على التحكم بالمشهد ومدى قدرته على الحفاظ على تفرّده لا الغرق بتفاصيل ممجوجة مثل الدعارة والوقوف عند الخوّة. فالمشاهد بحاجة للإنصات الى مشاكله اليومية الدولار، الكهرباء، البنزين، الانتحار مثلاً... إلخ... فهل ستتقدم هذه الظاهرة على المشهد وتنطلق النصوص الثلاثة لتتصارع بعنف في ما بينها بعيداً من قاعدة الخير والشرّ؟
الصراع الأنثوي المفكّك وموقف الجماعة
تقف المرأة بحضورها المشهديّ كنصّ متماسك محدّث عن النصوص التلفزيونيّة السابقة، فحضور المرأة بشخصيّات متفاوتة: الراضخة، الضائعة، فتاة الهوى، والمقامرة. شكّلت حتّى الآن مشهديّات معقولة ومقبولة تتماشى مع ما يعتري الحيّ من غياب للدولة وفوضى، لكن المستغرب وفقاً لما شاهدناه: لمَ ردود الفعل لا تنقل بشكل عنيف من قبلهن تجاه القائد الأكبر؟ وكيف سيبرّر الكاتب اختيار الاقتتال بينهنّ: "سارة ومريم مثال دون الحصر". والمستغرب أكثر ما الثمن الذي يدفع الفقير للرضوخ للقوي المستبد رغم أن الكثرة تغلب الشجاعة والخوف؟
المشهد وظهور الشخصيّة
لم يمشِ المشهد حتّى الآن عكس النصّ أو بموازاته، بل تابعه وكان تتمّة المرآة التي يريد المخرج تقديم الصورة للمشاهد من خلالها. فغاب التكلّف من ناحية الغلوّ بتقديم القاطنين لدرجة أننا نشعر كأن الأحداث حقيقيّة فضلاً عن غياب الخدع البصريّة أو التحايل على المشاهد.
وما بدء المشاهد بصيغة عنفيّة إلا دليل على قدرة الفريق المعدّ للسيناريو على شدّ المشاهد لذاته وباطنه من خلال الحركة والصوت العالي والصدام، فضلاً عن ظهور الشخصيّات بطريقة غرابيّة ونتحدّث عن طوني عيسى بهندامه المتشدّد الذي يثير التساؤل حتّى الآن، إلّا أن الغائب راهناً هو سبب حصر الصراع بالمكان المغلق وعدم التوسّع الى باقي رقع البلد، خصوصاً أنّ المشكلة تنطبق على أحياء أخرى والاستبداد في بلد تعدّدي.
كـ لبنان له عدّة أوجه؟
حتّى الآن وبعد أربع حلقات، مسلسل "النّار بالنّار" يتفوّق على كل الأعمال السوريّة الرمضانيّة التي شاهدتها... فقد استطاع رامي كوسا ومعه عابد فهد وكاريس بشّار وجورج خبّاز أن يجسّدوا الشخصيّات التي نبحث عنها أو نبحث عن أنفسنا فيها، شخصيّات مأزومة من لحم ودم الواقع المأزوم عرقياً وطائفيّاً واجتماعيّاً... حكاية المسلسل ليست عبارة عن بلطجي سوري يتحكّم برقاب قاطني حيّ شعبي... الحكاية تكمن في مدى فهم هذه الشخصيّات ومن يتابعها لمراراتهم، ويمكن السؤال كيف سيصوغ السيناريو نفسه وتحوّلات ممثليه؟ وماذا ستحمل المتتاليات النصيّة والمشهديّة بعد كلّ هذا التشويق المحبوك بمشاهد ووقفات عنيفة؟
النّص حتّى الآن مفرغ من أيّ حشو وثرثرة واستطراد وكلّ نسق حكائي مرتبط بسواه، والرهان كل الرهان على المبنى الحكائي قبل أن يكون على المنحى الإخراجي التلفزيوني.