حتّى هذه اللحظات، لا يزال خبر رحيل الفنّان الخلوق جورج الراسي يصعقنا ألماً. كُثرٌ يُريدون لهذا الخبر - الصّدمة أن يكون "شائعة"، إلا أنّ الشائعة المرغوبة هذه المرة لم تكن حاضرة.
توفّي الفنان اللبناني بحادث سير على طريق المصنع الحدودية (البقاع)، بالقرب من مركز الأمن العام اللبناني بعد اصطدام سيارته بالفاصل الإسمنتي، فشاء القدر أن تكون الخسارة مضاعفة برحيل زينة المرعبي، الأم لثلاثة أولاد.
الحزن البليغ يخرقه غضبٌ ونفورٌ من بعض النفسيّات المؤذية على مواقع التواصل الاجتماعيّ، التي قادتها شهواتها السوداء إلى نشر صورة لجثة الراسي من داخل السيّارة المحطّمة، ومن تلك المعدومة الإحساس، التي بدأت تبحث عن هوية "الفتاة الغامضة" التي كانت برفقة الراسي. ألم تسمع هذه النفسيّات بحرمة الموت وبوجود عائلتين مفجوعتين؟ حتى في موضوع الموت يستيقظ الانحطاط الإخلاقي لدى هذه النفسيّات؟
شاء القدر أن يودّع الراسي المسرح، المكان الذي كان ينبض قلبه فيه منذ الصغر، بحفل قدّمه في سوريا الجمعة (26 آب)، ودعا جمهوره هناك إلى أن يكون عالموعد: "كونوا هناك!".
صعد اسم جورج الراسي صباحاً الترند، لا تهنئة على عمل فنّي قدّمه، إنّما رثاء لفنّان كان حاضراً على الدوام في ذاكرتنا المُحبّة للفرح والموسيقى.
فنّانون كثر اليوم عبّروا عن الصدمة بعدما علموا بالفاجعة، أمّا أصدقاؤه المقرّبون فأمسك بهم الصّمت القسريّ: "شو بدنا نقول؟ شو بدنا نحكي عن جورج؟".
في ذاكرتنا الحيّة أغنياتك يا جورج، الطربيّة منها والرومانسية، التي كنت تحرص على أن تتضمّن رسائل إلى الحبيب والمرأة، فكانت آخر أعمالك "بعمل بأصلي"، التي كتبها الشاعر علي المولى، ولحّنها محمود عيد، إذ وجّه عبر الكليب، الذي حمل توقيع المخرج حميد مرعي، رسالة داعمة للمرأة: "العنف ليس حلاً".
المايسترو والملحن محمود عيد لا يزال ككثر تحت تأثير صدمة خبر رحيل الراسي، واكتفى بنقل سعادة الراسي أخيراً بأصداء الأغنية قائلاً له بنفسٍ سعيد للعودة الفنية الناجحة: "حبيبي يا محمود، يا ابن الأصل، أغنية أعادت العز، الحمد الله، أنتظر منك الأغنية التالية".
أما المايسترو ربيع حسن، الذي جمعته محطات فنيّة حافلة بالراحل في قيادة فرقته الموسيقية، فيقول لـ"النهار" بغصّة: "لقد بكيت جورج اليوم بحرقة. كان أوّل مَن بدأت معه مشواري في عالم الموسيقى. شهدنا الحلوة والمرّة، لكنّني أغصّ أكثر لأنّ هذا الفنّان الشاب شقّ طريقه الفني بصعوبة؛ والنجاح الفني الذي كان يحصده لطالما كان يأتي بتعب ومجهود فرديَّين. لقد رحل جورج الأخ والصديق، الذي لم تنصفه الحياة، لكنّه لم يفقد الأمل، ولم يتوقف يوماً عن الغناء، لأنّ المسرح والجمهور كانا ملاذاً شافياً له للهرب من الأوجاع التي سقطت عليه قسراً. كلّ ما أتمناه أن يصبّر الله قلب عائلته على هذا المصاب الذي أدخل الوجع والحزن في قلوبنا".
بدورها، باميلا جبرا، التي شاركت الجمهور فيديو طريف للراسي خلال تصويره حلقة "تعا ننسى" على "أم تي في" مع الاعلامي طوني بارود، عاجزة عن التعبير بعدما سمعت بالخبر: "لا أشعر بجسدي. لا أريد أن أصدق. وكأننا كنّا نودّعه في حزيران الماضي".
رحل الراسي عن عمر ناهز الـ40 عاماً. انطلق في مسيرته الفنية وهو في عمر الـ16 عاماً. النجاح الفعلي الذي حلّق من خلاله في عالم الفن كان عبر أغنية "لا تسألني كيف بغار" (الحبّ المجنون) ليبدأ بعد عثرات فنيّة كثيرة رحلته الرسميّة في تقديم الأغنيات الضاربة: "جاي تعتذر"، وحدك إنت"، "عندك شكّ؟"، "ألبي مات".
ومن المفارقة أنّ الراسي تحدّث في أكثر من لقاء عن نجاته من أكثر من حادث سير في حياته، مشدّداً على أنّ حزام الأمان كان المنقذ الدائم له. ولعلّ كليب أغنية "إنت الحب" الذي يوثّق فيه تعرّضه لحادث سير أراده الراسي أن يأخذ جانباً توعوياً للشباب، إذ تعاون فيه مع جمعية "يازا" تحت شعار "ما تشرب وتسوق".
عُرف عن عائلة الراحل هذا الدعم الذي يتبادله أفرادها، سواء من شقيقته الممثلة نادين الراسي، وشقيقته ساندرين التي قدّمت عدداً من الأعمال الفنية. شاء زواجه الثاني بجويل حاتم أن يأخذ حيّزاً واسعاً من عناوين الصحافة لا سيّما بعد الخلافات بينهما، والتي خرجت إلى العلن، لكنّه سعى جهده لإخمادها كرمى لابنه جو.
إلى جورج الراسي: الجميع اليوم سيُعيد إلى ذاكرته أسلوبك الخاصّ في أداء "زينة لبست خلخالا"، وأغنيات طربية كنت تحرص على استحضارها معك في حفلاتك. الجميع سيُردّد الأغنيات الرومانسيّة التي كنت تخصّصها للعاشقين، لكنني سأستعيد إيمانك الكبير، وهذا الحب المقدّس الذي كان يخرج منك إلى نجلك جو وعائلتك وأصدقائك.
سأستعيد ما فعلته لشقيقة صديقك، الشابة التي كانت تصارع مرض السرطان، وكانت في أشدّ عذاباتها وهي في لحظاتها الأخيرة. إيمانه قاده إلى مار شربل في تلك الليلة الأليمة، فأضاء شمعة لها، وشمعة لجو. طلب بخشوع أن يزيل الألم عنها، وأن يفعل ما يراه مناسباً لها. أردت مواساة عائلتنا، وذرفت الدموع، وأنت تروي ما طلبته من مار شربل، هكذا أنت يا جورج...! فنّان وإنسان طيّب، كتب لمسيرتك أن تنتهي قسراً على طرقات لبنان، البلد الأحبّ إلى قلبك.
وكما قلت في رسالتك عبر قناة "الجديد": "حبّوا بعض، الحياة ما بتستاهل".