لا يستطيع أيّ مشاهد، لا سيّما المشاهد العربي، أن يعرف كيف صعد نجمه أو نجوم لغته إلى قمّة السينما. وإذا اتخذنا نور الشريف (1946-2015) كمثال أوّلي للنجوم الكبار الذين وجدناهم في قمّتهم، نحن جيل التسعينيات وتدرّج وعينا على أنّه مدرسة في نقل التجربة إعلاميًّا وتأويل الشخصيّات وتجربته مع النصّ. وبعيدًا من كلّ ما أثبت وقيل، سنحاول قراءة بطل فيلم "الكرنك"، والقابض على شخصيّة عبد الغفور برعي من خلال لعبتي الفوارق وإدارة المشهد لنصل أخيرًا نحو تعاطيه الإعلاميّ في أواخر أيّامه مع المتلقّي للصوت والصورة.
الفوارق السينمائيّة والتحوّل في الحركة
قد تكون مقارنة التجارب التمثيليّة واحداً من الأمور التي رفض نور الشريف الخوض فيها إعلاميًّا، عاكسًا سعادته إزاء نجاح زملائه اللامعين في تأدية أدوارهم من دون إخفاء غيرته الشريفة منهم. لكنّ مقاربة التجارب ليست بالعمل المبتذل أو المرفوض، أقلّها نقدًا. ففي"مدرسة المشاغبين" (فيلم إنتاج 1973، مسرحيّة عرض أوّل 1971) نجد الفوارق التي أتقن نور الشريف التعاطي معها وهو في بدايات تكوين هالته النجوميّة.
فشخصيّة "بهجت الأباصيري" - التلميذ الذي عكسه مسرحيًّا عادل إمام (1940 -...) كعامل مساند لمرسي الزناتي (سعيد صالح مسرحيًّا (1940-2014) الشخصيّة التي لمعت كوميديًّا وأدّت دورها الساخر الشاخص والمتمرّد مسرحيّاً على سهير البابلي (1937-2021 ) - كسرها سينمائيًّا نور الشريف حين استطاع وضع أدائه مكان الأداء المتعارف عليه نمطيًّا وجماهيريًّا، فغطّى عجزه عن الظهور كوميديًّا كي لا يقارن بالزعيم، وأعاد كتابة الشخصيّة تمثيليًّا وسلوكيًّا من خلال جعل بهجت الأباصيري شخصيّة "لزجة"، ثقيلة الدمّ وفارغة، الأمر الذي أظهر بصمة الشريف، الذي قد يضحكنا من خلال تقديم الشخصيّة الغريبة المنفصلة عن واقعها المفترض، والتي ترجمها فيما بعد في فيلم غريب في بيتي (بطولته وسعاد حسني (1943-2002)- إنتاج 1985) في هذا العمل، أخرج الشريف منسجمًا مع النّص الشخصيّة الصعيديّة "شحاتة أبو كفّ" من نسقها المتشدّد والمتمرّد على المدنيّة وحياة المدن إلى شخصيّة مستغربة مضحكة في دورانها حول نفسها، وهو تحدّ اجتازه بطل فيلم العار (إنتاج 1982) مثبتًا أنّه يستطيع أن يتخطى شخصيّة كمال ابن تاجر المخدرات المحصّن بأدوات كالدين والتقوى وغيرهما رغم أنّه عاد وترجمها بصخب أكبر واستفزاز نصّي أكبر في فيلم عمارة يعقوبيان (إنتاج 2006)، هذا الاستفزاز كتب له الترجمة داخل النّص نفسه حين قال "زكي باشا دسوقي "(عادل إمام) "بتصرف": دا راجل كدّاب، كان بيمسح أحذية...".
لعبة الفوارق التي أتقنها نور الشريف لا تنعكس فقط على أداء النص "بالميليمتر" بل على دقّة اختياره للنصوص المتقاربة نوعًا في سنوات إنتاجها، إلّا أنّ عامل السنّ لعب دورًا في تحويل نجم مسلسل "الرجل الآخر" (إنتاج 1999) الذي ترك إيقاع الجسد وركّز على إيقاع الملامح في حضرة المتهم أبي مثلاً (إنتاج 2006) لدرجة تجعلنا الشخصيّة نبكي عليها من دون أن تعبّر، أو قبلها "عائلة الحاج متولّي" الذي تداخل وعيًا مع "العطار والسبع بنات"، ليعكسا بدورهما صورة الأبوّة الأنانيّة الزاهدة في ملذات الدنيا.
عرف نور الشريف تجاوز فوارقه عن غيره وفوارقه عن أدواره السابقة، ما يضعنا أمام حالة سينمائيّة تكوّن هويّتها من خلال دراسة لاواعية لذاتها وقدراتها التلفزيونية والسينمائيّة.
الإعلام وأيّامه الأخيرة
لا شكّ أن دخول نور الشريف المشهد التلفزيوني التاريخي عن طريق مسلسل "عمر بن عبد العزيز" وغيره من الأعمال، وقبله أعمال ذات قضايا والتزام عقائدي كفيلم ناجي العلي وقبله فيلم "الكرنك" الناقد لتجربة ناصريّة بوليسية صاخبة بعنفها، تعكس قدرة "محمد جابر عبدالله " المتأثر بعمر الشريف والمعروف بنور الشريف على تسويغ ما فعله وما اختاره وكيفيّة تموضعه داخل الشخصيّة. والحق أنّه بالرّغم من تمكّن المرض منه، فإنّ إطلالاته الإعلاميّة المصحوبة بالبسمة والأمل في العينين تجعلنا نتشرب كلّ ما قاله في حقّ الإنتاج والأجر والأدوار على أنّها تجربة ذات سياق معرفيّ لا تسمح لنا مشاعرنا بنقدها أو نقض محتواها، خصوصًا وأن الشريف تدرّج في إطلالاته تدرّجًا واعيًا في كشف احتكاكه بالعالم الآخر. بدءًا من اضطراب علاقته بأمّه التي "تركته" والتي توفّيت خلال تصويره أقسى الأفلام "الكرنك" وصولاً إلى نفي الشوائب المرتبطة بعلاقته بالفنانين والتي دفعت عدّة فنانين لا سيّما رفيقه حسين فهمي (1940-...) إلى تذكّره بشكل مؤثّر في أكثر من وقفة إعلاميّة.
أراد نور الشريف أن يكون مدرسة قائمة بحدّ ذاتها أقلّها بالنسبة للجمهور، فانعكست بشكل تلقائي على زملائه الفنّانين منهم توفيق عبد الحميد الذي اعتبر الشريف أستاذه كلّما أتى الحديث عن دقّة عبد الحميد في إيصال شخصيّة كمال أبو العزم في مسلسل "حضرة المتهم أبي".
حتّى وفاته بعد صراع شديد مع السرطان في 11 آب 2015، بقي نور الشريف يجيد الخفّة ويهرب من الثقل سواء في منطق الحكي الاعلامي، أو تسويغ انتقاء الادوار ورفضها، فاصلاً سلوكيًّا ما بين الغيرة والندم، ما جعل السينما والتلفزيون يسخّران له بورتريه كبيرًا عصيّ الانتزاع يبقينا - رغم ما صرّحت به كريمته الفنانة مي نور الشريف عن قدرة مصطفى شعبان على تجسيد دور والدها في حال تحولت قصّته الى عمل تلفزيوني - أسرى لشخص صعب التأثر به وعكس تأثيره بدقّة.