النهار

ابتسامة بلون الدمّ للجنرال
النجم مكسيم خليل في "ابتسم أيها الجنرال".
A+   A-
في مجمل الأعمال الدراميّة الأخيرة كان تقديم الواقع السياسي والمجتمعي مبنيّاً على عراك الجماعة المتمثّلة بالشعب الرافض والثائر ضد النظام وجماعته المستشرسة، إلا أن ما شهدناه في الأعمال الدراميّة السوريّة الأخيرة، والتي تمثل فترة ما بعد الحرب لا ما قبلها، فبعد "دقيقة صمت" و"كسر عضم" وغيرها من الأعمال، أتى مسلسل "ابتسم أيّها الجنرال" (تأليف سامر رضوان، إخراج عروة محمد، إنتاج "ميتافورا") ليقلب الطاولة وليتوغل مجدّدًا في قلب النظام وتفكّكه ومحاولة ترميمه لذاته من خلال الصراعات الدمويّة على المناصب والبقاء عازلاً بذلك الشعب وقضاياه واحتقانه المجتمعي/المعيشي. لكن هذا التكريس لهذا "الانقلاب" النصّي وضعنا منذ الحلقتين الأولى والثانية أمام إشكاليّة تلقي بصريّة/فكريّة: لمَ غابت الحدّة عن الشخصيّة الأساس؟ وكيف يتقدّم الجنرال الحاكم المستبد فرات (مكسيم خليل) الأحادي بصورة شاحبة جاهدًا لعقد حاجبيه؟ وإلى أي حدّ عكست الأعلام واللهجتين اللبنانية والسوريّة الرؤية الى الواقع لدى المؤلّف الذي ترجمها والمخرج بحركة الشخصيات؟


الشخصيّة الأساس الشاحبة وتحوّلها

ما قبل الحلقة السادسة ليس كما بعده، هذا ما يمكننا قوله باختصار عن شخصيّة فرات (مكسيم خليل) الوريث لسدّة الحكم ببدلته العسكرية القاتمة والنجمات التي تختصر رتبته العالية. فمن الحلقة الأولى، أعطانا المخرج وفي هول تجلي شرارات الأزمة، صورة القائد الصامت الشاحب المنفصل عن العالم لولا الأخبار التي تصل من جهاز المخابرات الذي يرأسه حيدر (عبد الحكيم قطيفان) فضلاً عن امتلاكه القدرة على الاستماع والإنصات لا اتخاذ القرار بوجود شخصيّة مناوئة لهدوئه وترويه وهي عاصم (غطفان غنوم) الذي أدّى حتّى الآن ست حلقات لا تخلو من التماهي مع الدور المتهور والعنيف والراغب بالحسم الانفعالي. كلّ هذه العوامل أضعفت الجنرال فرات للوهلة الأولى وقدّمته على أنّه التائه في غابة لا تنتهي، يكاد يتكلم، يكاد يتلقّى الخبر ويكاد "يستوعب" الصوت والأصوات وما مشهده مع سامية (سوسن ارشيد) الذي زجها واسمها وضاح فضل الله (محمد الأحمد) الضابط المتقاعد والمهندس ضمن كتيّب النساء العشيقات له من دون أي توضيح أو تفصيل. حدث كان لا بدّ من أن يكشف عن أنياب الجنرال فرات، لكنّه ظهر بجناحين مقصوصين في أولى ثلاث حلقات بعدما ترك الملعب لحيدر واستعصى عليه لجم أخيه عاصي المتهور. والسؤال المطروح: ألم يكن على جنرال ديكتاتوري قدّمت بعض قصص وصوله الى الحكم إثر انقلاب شنيع في الحلقة السادسة أن يكون هو المتهور ومن حوله هم المتروين او المتماهين مع تهوره؟ هل يعرف الديكتاتور دهاء مكيافيلي حين تقترب النار من عرشه؟ هذا الهدوء انعكس بشكل شاحب سرعان ما تمّ تسويغه حين اعتمد المخرج على تقنية التدرج بالعنف لدى فرات والظاهرة من خلال الفلاش باك العاكس لسلوكياته السابقة مع سامية شقيقته، إلا أن هذا التحوّل لن يكون كافيًا في حال بقي محصورًا بالقتل والدم لا بتغيير تكتيك الجنرال لقصره وادارته.



 
الترميز النصّي ومرآة الصورة

لن تنجح لعبة "هذه الأحادث لا تمت للواقع بصلة" في إخفاء الرسائل السياسيّة للنص ولو نجحت فإنّ الصورة كفيلة بكشف "الرؤية وعورات النظام" المبني النقض (الهدم) والنقد عليه. فقصّة وضّاح فضل الله (محمد الأحمد) وسريره المفخخ بزوجات المسؤولين ليست هي المحطة الأساس، هي القطار السريع المكثف بحفلة فضائحية قصيرة لفضح وهن النظام وما توجه وضاح لأنيس (مازن الناطور) قائلاً: "انت يا حكومة الظل روح خبر اسيادك" (بتصرف)، إلا دليل على أن المعركة أكبر وأن الصراع هو صراعات داخلية لاعتلاء العرش وليس للابتزاز وإخراج سجين فقط.
 
كلّ ذلك قدمّته عدسة المخرج من خلال إطلاق الإشارات الواقعية في النص المجبولة بتربة الترميز للنظام السوري ولسوريا كدولة عبر: علم جمهورية الفرات القريبة ألوانه لعلم حزب البعث، الضباط والانقلاب الدموي الذي يطال المجلس بقتل والد العميد، قوات الفرات (توريه لقوات الأسد)، قناة "الشروق" واقتحامها يذكرنا باعتداء السوريين النظاميين على جريدة "النهار" وإيقاف قناة "أم تي في"، بالاضافة إلى تقديم الأم في ماضيها على أنها عصب النظام وركيزة تثبيت أبنائها في الحكم واللهجتين للدولتين (اللبنانية والسورية).

كلّها تؤكد أن القصة أكبر من وضاح فضل الله وأكبر من نظام خيالي وحكم، إنه رجم لحاضر يتشكل عبر الصوت والصورة المعتمة الداكنة في الحلقات الأولى والتي بدأت تتخذ نورها في ضوء التحولات.
 

من الخطأ إذن حصر الحكاية بوضّاح فضل الله (محمد الأحمد) الذي كشف "عورة" أزلام السلطة وهدّد الزعامة الأولى من منطلق الشّرف، وضّاح فضل الله هو قنبلة بين أحضان نظام قابل للتفكك خاصة وأن الموجودات الماديّة في كلّ مشهد لها دلالات سيميائيّة تلفزيونيّة وسياسيّة. الحكم على شخصيّة الجنرال فرات ما زال جدًّا مبكرًا خصوصًا وأن سامر رضوان اختار رسم مكسيم خليل "فرات " على سلم العنف المتدرّج. وهو ما يطرح إشكاليّة وتساؤل لمَ على شخصيّات ثانويّة مقارنة بالرئيس مثل عاصي (غطفان غنوم) الشقيق العسكري المهيمن بمنطق الصوت والعنف والذكورة التي شكلت عنده أداء مدرسياً نستحق الوقوف عنده ومدير المخابرات حيدر (عبد الحكيم قطيفان) العاقل المنفذ لأوامر المحو والإلغاء والمؤمن بسياسة التخطيط والتكتيك... ببساطة العمل ينمو في رؤية المشاهد... وحتّى الآن ابتسامة الجنرال شاحبة وللحلقات المقبلة الكلمة الفصل بين التحول الى جرأة أو استئناف لعبة الترميز والدراميّة البصريّة.
 

اقرأ في النهار Premium