لا يزال الحشّاشون، الحسّاسون في روايات أخرى، يطوحون عروضهم السردية التاريخية على القرون الجديدة. ثلاثة عشر قرناً ولا يزالون يشجعون على اكتشاف نمطهم، بحيث لا يزالون يدفعون قراء مرحلتهم إلى التركيب لا الاستنتاج. هكذا، تجلّت توقعات المؤدين في الروايات والدرامات التلفزيونية لا في محاولات فهمهم، بل في تغطية جُلَ ملامحهم بصالح ملامح أخرى، تديُّنهم. أشياء يُقصد نقلها، أشياء يُتوقع نقلها في الصراعات المحورية الدائرة في المنطقة وعلى المنطقة.
لا يظهر أحدهم بأنه مهتم بفهم عروضهم الأساسية، لا في القديم ولا في القرن الحادي والعشرين. ولا بفهم المسافة بينهم وبين من ملكوا جهدهم لتكوين الملمح الأساسي في عقيدتهم. الكلام كلام دائم على العقيدة، لأن الحشاشين أصحاب عقيدة،بعيدة حتى من الفرق الشيعية. لأن الأخيرة اثني عشرية، حين أن حشاشي حسن الصباح سبعية، لأنها ضمن التسلسل في إمامة أهل البيت تشرّع بالإمام الأول علي بن أبي طالب وتنتهي بالإمام السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. كما أنهم نزاريون. فرع منشق عن الإسماعيلية الأم لدى الفاطميين. إنهم نزاريون بعد موت الخليفة الإمام الفاطمي المستنصر في العام 1094، واحتدام التنافر بين ولديه أبي منصور نزار من أوصى والده له بالخلافة، والأصغر أبي القاسم أحمد، من تولى الخلافة بالغصب بتواطؤ مع الأفضل بن بدر الجمالي. مذاك انقسمت الإسماعلية إلى قسمين. الصباح إسماعيلي نزاري، منذ انقلاب الأخ على أخيه.
لا علاقة للكلام هذا بالتقديم . هذا كلام في صلب الكلام. لأن الدراما التلفزيونية تراهم كوالح كالورق الأصفر، لأنهم فرقة لا علاقة لها بالفرق الأخرى ولا بالمذاهب الأخرى. فرقة تتنفس وهج العزلة في قلعة تسحر. سحرهم إذن. عداؤهم إذن. كلهم يعادونهم. وهم يعادون من عادوهم. الفرق السنية الظاهرية في قراءة المتن القرآني، والفرق الإسماعلية الإثني عشرية، حتى ولو تقاسموا معها الاستناد إلى الفقه الجعفري في أمور العقيدة و" الفتيا" على ما يؤكد رشيد وحتّي. استفراد "الفداوية"، من هبوطهم على الفرق الأخرى في الدين الإسلامي، عموم الدين الإسلامي، من أعلى مجرّتهم في قلعة الموت. القلعة مركبة نوح أخرى،عامرة بالخيال. عامرة بالنسمات المركّبة. ما لم تجده الفرق الأخرى إتماماً لما تقدمت به.
الأصح عند الحشاشين هو العكس. لذلك يتحمسون لنظراتهم، ما لا تتحمس له شركات الإنتاج وهي تحوّل حسن الصباح إلى شهريار لا يفنى. ذلك أن حشاشي بيتر ميمي هي دراما من درامات دارت رحاها حول هذه الفرقة المبتعدة عن العالم،حين اقترب العالم منها بشيطنتها.بالعام 2016 أخرج إياد الخزوز الأردني "سمرقند" دراما إذاعتها مجموعة من المحطات دفعة واحدة في إشارة إلى إتمام الدراما على قواعدها . MBC وأبو ظبي وقناة دراما والمستقبل وخليجية، مع عابد فهد وأمل بو شوشة وعشرات المؤدين. وُجد الصباح في وجه قماشة "سمرقند" كبطل من أبطال الرسوم المتحركة. كما وُجد اتباعه كمجموعة من المبرطمين، يسيرون على خطاه بدون أن يختلطوا به. وُجد الصباح كبحر عجيب على مرج الطرقات، يتخفى ويُلَاحِق ويُلاحَق. يقفز في الهواء كنينجا مدرب. يقفز طائراً، بدون امتلاكه صوت العصافير ولا صوت الحمائم. لن يتخلى "سمرقند" عن رواية ماركو بولو، حول تيمم الفدائيين بالجنس في جنتهم ذات المسار العجيب، ذات مسار إذا تخلى عنه فدائيوه انطلقوا في جولة موت واحدة وأخيرة، كما يحدث في الحشاشين لبيتر ميمي. اسم حقيقي. أم إسم مؤلف. لا يزيد الأخير على "سمرقند"( تأليف عبد الرحمن كمال) سوى التصلب في رواية ملاحظات لا جدوى منها.
ملاحظات كالمكالمات الهاتفية. إنهم عند ميمي متظاهرون، يتعين تتبعهم بدون سؤال، يجيزون ركوب الجياد واجتياز الحواجز وهم يمهدون لاغتيال أمير أو خليفة في مجلس أو جامع أمام جمهور لا يخشون أن يتتبعهم ويمزقهم كما يمزقون أعداءهم. ينسى من تناولوا الحشاشين الغرض من رواية ماركو بولو، من ولد 1254، بدون الإصغاء إلى حقيقة أن القلعة، بجزءيها، جزء الواقع وجزء الجنة، احرقت ودمرت في العام 1256. أي أن بولو يمنح نفسه فرصة الراوية بوصف القلعة وهو لا يزال مولوداً بعد. ابن العامين يقود الراوية. ثم، يقف . ثم، يغادر الرواية، بعد أن خلَّف العالم وهو يحتفل بروايته، كما يحتفل بالعيد.
لا تزال عواصم العرب تشغل نفسها بالاستشراق. حين يراقبون روايتهم وهي تقص على ألسنة الآخر، يتبنونها، يتبنون تفاصيلها بدون رقابة أو سؤال. هذا ما حدث مع الخزوز. هذا ما جرى مع بيتر ميمي. لم ينحِ احد رواية في رواية من أجل الأحفاد . لأجل المصداقية. الصباح بهلول سمرقند، لئن بقي في الحشاشين يردد لنفسه وللآخرين على نحو واعِ، أن العقيدة تتخطى الواجب إلى وضوح المشكلة والهبوط بها من الجنة إلى أرض الواقع. لا العكس.لأن الفدائي يمر بالجنة. ثم، يقف في صفوف المصلين منتظراً فرصة الإنقضاض على فريسته الثمينة. إنها يوميات من قام بالخاطرة على سوء الموقف من الفرق الأخرى، وهو يمضي قدماً من أجل نفسه. هكذا يؤكد كريم عبد العزيز، الصباح، منذ اللقطة الأولى أن الفداوية لا يتكلمون وهم يؤدون على السمع والطاعة، إذ يطلب من احد فدائييه أن يجدد حس الشهادة (المجاني في اللقطة) أمام الوفد الفرنسي، ليرمي نفسه عن جدار القلعة في لقطة أميركية. الأمركة واضحة في يباب دراما الحشاشين، بعد الأتركة في "سمرقند" حين حوّل الخزوز الدراما إلى دراما حريم السلطان الأخرى.
لا يعوز من يأخذ على نفسه أن يقرأ في تاريخ الحشاشين، يقال أن التسمية من حش الأعشاب في محيط القلعة، لأجل تحويلها إلى أدوية، لا يعوزه أن يحسر الميزانيات الكبرى عن سمرقنده أو حشاشيه. لأن الراوية تفتح ذراعيها لنوع من الكيميائية الإنتاجية العظمى وهي تحتفل بصورها ومؤديها بعيداً من "اللو بادجيت". سوف تكلف النكتة ما تكلفه. كيف هو الحال إذن في رواية لم يستطع أحد أن يتغلب على خيالاتها بعد. انتاج ضخم مع عشرات المؤدين، من يتدفقون على تحولات الرواية التقطيبية. لأن لا أحد له معرفة بما يروي. بالأخص الثورة على مفاهيم المركزة، بطش الدول المركزية واستبدادها. مشهد موت الفدائي أمام الوفد، مشهد خوف الفدائي الآخر بعد عودته من "الجنة"، مشهد تدريب الفتيات على استقبال الفدائيين، مشهد نحر واحدة من الفتيات بعد تعرف زميلتها على أحد الفدائيين، مشهد انضمام بعض الشبان السلاجقة إلى الحشاشين، كل المشاهد من روايات تتأسس على النظرات المصطنعة والمركبة للمستشرقين من الرحالة والديبلوماسيين الأجانب والمستكشفين من شرعوا في تغلغلهم في المرحلة القروسطية منذ الحروب الصليبة، تقود إلى الانزلاق في شكلانيّة تقوم على الخداع لا على التشكيل. لا يزال الفكر الكولونيالي يحكم. لا يزال المؤرخون العرب يطفون على المؤشرات لا على طرق السير.
هكذا، جرى القفز فوق إبن الأثير. ذلك أنه قال إن الصباح حادّ الذهن، عليم بالهندسة والحساب وعلم الفلك والسحر (صور الحشاشين الصباح في مشهد وهو ينشطر بحيث يضحى أكثر من رجل يتواجد في أكثر من مساحة في الوقت ذاته). الهليدة تمسخر شخصية تاريخيّة لم يعثر عليها أحد بعد على ما هي عليه في الرواية والفنون والدراما. الصباح شارلتان، يقيم على الجانب الآخر من العالم. تسطح الدرامات ذاتها من عدم قدرتها على توظيف الحقائق وعلى ابداع جوانب الاتصال بينها. يقول القلشقندي إن الصباح بارع بالهندسة و "علم النجوم". محترز، محتاط . لم ينم إلا في برج خشبي خوفاً من الاغتيال، بعد أن اغتال الحشاشون نظام الملك. لا ذكر لاغتيال الحشاشين المركيز الصليبي كونراد مونفيراتو، ملك بيت المقدس. لم يذكروا ضربتهم الكبرى. هذه ضربتهم الكبرى
(لم تنته الدراما بعد). ذلك أنهم موتى الزيجات بين الدراما والأيديولوجيا. أولاً، الصراع الفارسي/العربي. الآن، الصراعات الداخلية في المنطقة والصراعات الكبرى فيها. كل كلام على الحشاشين كلام مؤسسات رسمية.
تطبيقات لا ديموقراطية. الصراعات الدينية، لا الصراعات الوجودية. فدائيون مدربون على فنون التنكر والفروسية والاستراتيجيات والتكتيكات والاغتيالات العلنية تختصر في درامات تظهر مشاهدها كبطاقات البريد، لأنها تقوم على الصراع الثنائي في منطقة لا يزال مغولها احياءً في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
خمس وثلاثون سنة في غرفة واحدة.خمس وثلاثون سنة انتهت بسقوط قلعتي العليقة والرصافة. ثم، سقوط قلعة الخوابي، لينتهي وجود الإسماعيلين في بلاد الشام.
كل من يروي رواية الحشاشين يرويها كحنبلي. لا بأس بأن تطغى العمارة الأندلسية والمغولية والمملوكية في تصميم الحارات والقصور والأبراج والأسواق، لمَّا أن العمارتين الفاطمية والسلجوقية ذات سمات فريدة. لا بأس من المغالطات التاريخية. لأنها مقصودة (كما جرى في الاختيار مع ميمي نفسه، حيث ظهر الصراع بين الجيش المصري والدواعش صراع بين إسلامين). حقبة دموية تناحرت فيها الممالك والفرق والأعراق وتطاحن أهل المشرق والصليبيين، انتهت بسقوط القلعة على يد المغول. قال هولاكو إن القلعة معجزة عسكرية. بناء عسكري معجز. لا شيء مما يروى، لأن الآلية الأيديولوجية تقود كل ما هو حياتي، كل ما هو ثقافي. الحشاشون، الدراما، نهوض آخر للأيديولوجيا على حساب الثقافة والفكر.