السرُّ كامن في الجزء الأول من "نقطة انتهى". جزؤه هذا في "النار بالنار". الجزء الأول حاذق ببعض سرداته، عضّه على ألم الناس. ذلك أن "نقطة انتهى"، بذل قصارى الجهد في اللحاق بالنار بالنار. ما أثاره، كما لو أن موضوعه نحل يزحف في الأفواه :اللجوء السوري.
نجاحه الجزئي من هتافه بقصصهم تحكى في دراما تلفزيونية. تخمين في الأول وتصنّع واصطناع وتقليد في الجزء الثاني، من اعتبار الدراما واحدة في جزءين، بعنوانين. لا علاقة للأمر بالفيلسوف الباكي هيراقليطس. ولا بالفيلسوف الضاحك ديمقرايطس.
هو الواقع، حتى مع من يستطيعون أن يخدعوا جمهوراً بالابتكار. سبيلبرغ في جوس الأول جذاب، لأن فيه كل المعاني السرية، كل الاعتقادات، الغموض، فك شيفرات الغموض. الجزء الآخر لم يناسب أغراضه بصور جيدة. صحيح أن محمد عبد العزيز بعيد من سبيلبرغ بُعد الأرض عن الشمس، ولكنه وقع في "نقطة انتهى" بما يقع به المخرجون بعد تقديم جزء أول مُشكِلاً: التناسب بين الجزءين، حتى ولو اضطرّ إلى قرع الطبول. هذه قضية بالغة الخطورة، لأن من الصعب تقبّلها في حالات المشاهدة الجلية. حيث إن الفكرة مادة مهمة في الدراما. لأنها تتطلب فعلاً وتفكيراً.
يفعل محمد عبد العزيز في "نقطة انتهى" من دون أن يفكر. لا إبداع من دون فكر وتفكير. هكذا، وقع في عقلية التعلّم من النار بالنار، حين أوقع "نقطة انتهى" في تفسيره العام، في شكله العام. نسخه، على بعض المضافات. اختار الشارع نفسه. المقهى نفسه. انشغل بالانتظام لا بالتشعيب، لتواجه شخصياته في "نقطة انتهى"ما واجهته شخصياته في "النار بالنار". العكوف على الخروج في مدار. كل في مداره.
ثم، النقاش في المواضع المقصودة حول علاقة اللبناني بالسوري في النشاط اليومي. بطموحه الوصول إلى النشاط العقلي. إلا أن ذلك لن يقود إلى شيء في غياب المعرفة والمنطق. قاده النص (فادي حسن) إلى قصة صيدلي (عابد فهد. هو بطله في النار بالنار) وزوجته (ندى بو فرحات) في حي صعب تقبَّل الواحد فيه الآخر. لا فكرة حاذقة في بناء الدراما على حماية الصيدلي نفسه من زوجته بعد أن قتل شقيقها بالخطأ. أحداث القتل لا تنتهي في "نقطة انتهى".
يقتل غزوان (أنس طيارة) والدة الصيدلي العجوز (وفاء طربيه) بلا سبب مقنع. ثم، يقتل خالد السيد. إنه على استعداد دائم للقتل، لأن القتل عنده يمحضه القوة وأسباب الحياة المختلفة، بين المحامي (عادل كرم) الطامح إلى لعب دور سياسي وجورج شلهوب رجل العصابات المتواطئين على جعل الآخرين يتألمون. عشيقة المحامي تلبي احتياجاته في ممارسة العنف. لأنه كلما التقاها، بعد أن زَوَّجها من أخيه يعنّفها بالضرب باليد، بباقة الورد، بالورق. أو بوضع الرأس تحت الماء أو بالتحقير. وهي لا تنفكّ تعود.
ثمة عنف لا ينتهي في "نقطة انتهى". ذلك العنف قناع الدراما، يقود المشاهد إلى المراوحة أمام أكوامه على حساب القصص الأخرى. العنف يعني الشدة. العنف، عدم الرفق. الرفق حسن الانقياد إلى ما يؤدي إلى الجمال. لا شيء من ذلك. ولكنه العنف. ذلك أن ثمة فتاة حامل من شقيق الصيدلانيّة المغدور. عنف، من علاقة لاشرعية.
هناك عنف السلطة، الذاكرة، الغلظة في معاملة الآخرين. الحياة أعنف من الموت. العنف خطاب الدراما الطويل. ما يصوره "نقطة انتهى" الترويج للكراهية وعدم التسامح في إخراج لم يفُق إخراج النار بالنار وهو يكرره. بيضة وبيضة أخرى. هذا واقع الأمر. بيضة بلون أبيض وبيضة بلون بني.
كادرات، تفتقد أصواتها العالية. إخراج بلا براعة، بلا خيال. إذ يترجم الأحداث والمواقف بلا تناسق وبلا تميُّز. حيث تسود الفوضى في الإدارة وفي تنظيم الدراما بصورة ميسرة.
كل مشهد ولادة عسيرة، لأن الإخراج لم يسمح باتساع نطاق المجال النصي. نص يسقط عن حائط، بحيث لا بد من الكفاح لإنجازه مع مخرج خَلَّف أسسه ومواصفاته الفنية الكاملة في "النار بالنار "، حين استخدم عبدالعزيز اللقطات الفضائية واللقطات الأرضية من زوايا موحية، تتقدم وتشرع في الأعمال الهامة. ظهر الأمر واعداً إذّاك. الآن سفر في المساحة، بعيداً من محاولات إثبات وجهة النظر الإخراجية في دراما عاجّة بالأحداث والشخصيات. لا ضبط للأداء. لا تناسق إضاءة. لا هارمونيا أصوات وأدوات. ما يقضيه الواجب فقط. واجب لملمة النص في صور ومشاهد.كأننا أمام حلقات من تلفزيون الواقع، من تصويره على ما هو عليه. ومن دفع المشاهدين إلى الانجذاب إلى معرفة لمن ستكون الغلبة في نهاية الأمر. لا توليد لغة. ولا تجسيد يتخطى الزحف إلى الدمدمة.لا سؤال حول الاختلاف، معناه. لا تجهيز للمنافسات. قفز منذ اللحظات الأولى ،إلى واجب تحقيق الهيئة بما ما في الوسع. لا إبداع، باستعمال الخيال لتطوير الأفكار وتكييفها حتى تشبع الحاجات الفنية بطرق جديدة. الأهم أن لا قدرة على ممارسة التفكير الناقد لأجل تجسيد الوضع الإنساني بطرق حية. طرق لا تخطئ بهذا الصدد.
ثمة شخصيات زائدة. ثمة شخصيات تائهة، كشخصيّة تيم عبدالعزيز،مركب تائه في الحي المخبوط بالتخالط اللبناني/ السوري.تيم إبن المخرج، حوّله إلى بطل الدراما الأولى بعد حلقات عديدة على بدايتها، ما أغضب كاريس بشار المدهشة في "النار بالنار". وجدت في الأمر محاولة لإسقاطها عن عاليها. صرحت بذلك. فاق الأمر، الخلاف الحاد بين المؤلف رامي كوسا مع المخرج، حين غيَّر عبدالعزيز في النص، ما جعله نصّاً آخر بحسب المؤلف. ثم، جعل من ولده الأزعر، الداشر في الحارة فيلسوفاً من فلاسفة الحياة، بحيث قتل سيد الحارة وفرّ مع الصبية الحامل من غيره عبر الحدود إلى سوريا.
الأمور ليست على ما يرام في "نقطة انتهى"، كما جاءت في أجزاء من "النار بالنار" . لأن الأول افتقد مجموعة من الأسماء الوازنة كطارق تميم وساشا دحدوح وزينة مكي وهدى الشعراوي وجورج خباز وطوني عيسى. لمَّا لا يزال تيم عبدالعزيز يمضي في البقعة نفسها (دور صبي المقهى)، حين أضحى واحداً من كومبارسات "النار بالنار"، عبد الرحمن القادري، أحد وجوه "نقطة انتهى"، يقود أجزاء من الأحداث.
فوضى إذن. فوضى تقود المؤدين في مختلف مستوياتهم إلى أن يسيروا كما لو أنهم على القمر، بدون فقدان بعضهم رغباتهم في اكتشاف ما سعوا إلى الوصول إليه. انس طيارة كاريزمي تسكر الكاميرا حين ينوجد أمامها. عابد فهد في أداء محيّر. وثوق وتردد في الوقت ذاته. كأن ثمة ما يغلي في داخله، ولكنه لا يجد طريقة لكي يصرفه. كأنه فقد فانوسه المضيء في ظلام الدراما. تحرر ندى بو فرحات جسدها من الكليشهات الجسدية. لعبٌ داخلي ذكي، تفهم صاحبته أن تطريزات الدور الزائدة قد تقتله. دمها الطازج من روحها الطازجة. بياريت قطريب تفي الدور حقوقه.زواج الشخصية بأهدافها.
دراما "نقطة انتهى" هضبة مستديرة تهدد من عليها بالسقوط. النجاة أداة مبتكرة من لاعبي الأدوار. بعضهم مخيب كجورج شلهوب في شخصية المافيوزو. لن يتذكر أحد الكثير من "نقطة انتهى" بعد عرضه لأن مخرجه لم يقم بضبط مشاكله. لم يرتقِ إلى شجر الرؤى. لا يزال في "النار بالنار"، إشكالاته، تطاولاته، شروخه، إثاراته، تسطّحه من مباشرته. وهو ما تكرر مع "نقطة انتهى". لم يمتلك محمد عبدالعزيز في جديده سوى حماس الخاسر، بعد أن مضى في الجهات الأربع بدون بلوغ جهة من الجهات. كأنها دراما تزجية وقت في سهرات رمضان.