في آب 2024 وعلى وقع طبول الحرب، أبصرت "خيال صحرا" النور على مسرح كازينو لبنان. قاعة ممتلئة بجمهور أحبّ دخول عالم جورج خبّاز المسرحي بعد انقطاع قسريّ، خاطفاً نظرة على هاتفه بين الفينة والأخرى ليطّلع على آخر مستجدات الحرب في الجنوب، فيما كانت المعركة محتدمة أمامه على خشبة المسرح بين جبهتي خباز وعادل كرم.
كسبت مسرحية "خيال صحرا" من ناحية التوقيت، في مرحلة يعيش فيها اللبنانيون حرباً أهلية بلا سلاح، بل حرب أفكار، فأتت المسرحية لتوقظ الشباب اللبناني إلى خطورة الانجرار خلف الميليشيات وتذكيرهم بأن هؤلاء شعروا لفترة بأنهم يملكون الناس والشوارع والبلد، فيما النهاية هي إعدام مستقبل الشباب. هي مسرحية أعادت إحياء ذاكرة الحرب الأهلية بتفاصيلها الطائفية وخطوط تماسها بين مسلم ومسيحي. هو الكابوس الذي يرفض العودة إليه اللبنانيون. قد ينتقد البعض المسرحية من ناحية تكرار المكرّر، باستعراض الحرب من جديد، وفق مقولة: "شبعنا من قصص الماضي، دعونا نتكلّم عن أوجاع حاضرنا وما أكثرها". وقد يحق لآخر التساؤل: قُدّمت العديد من المسرحيات والأعمال السينمائية والدرامية وحتى التشكيلية منها التي تتناول لبنان خلال تلك الحقبة المرّة، فما الجديد في "خيال صحرا"؟
يكمن الجواب في العبرة ومضمون محدّث ترجمه بطلا العمل جورج خبّاز وعادل كرم في تجسيدهما دور قنّاصين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، كلاهما يؤدّي "واجباته الوطنية" في اصطياد الأبرياء كلّ على خط تماس منطقته، ويتصدّيان معاً للطابور الخامس! لبنانيان "أعدقاء"، جمعتهما الجبهات ومصيرها: الموت أو الضياع.
يطلّ الإعلامي الراحل عرفات حجازي ويتلو نشرة الأخبار على القناة "7"، متحدثاً عن بيان قمّة بغداد الذي جمع وزراء خارجية الدول العربية والذي شدد على ضرورة وقف إطلاق النار في بيروت، مع الحديث عن هدنة مدتها 24 ساعة في انتظار ما ستؤول إليه نتائج الاتصالات مع الأطراف اللبنانية المتنازعة ليبدأ حوار "وطنيّ" بين القنّاصين خلال فترة الاستراحة من سفك مزيد من الدماء في حضور فنجان قهوة وسيجارة وأكياس رمل وغيرها من أكسسوارات الحرب.
يقدّمان في الحوار الصورة النمطية المعروفة عن لبنان في عام 1975، والمقرونة دائماً بخطابات مشككة بالوطنية واتهامات بالعمالة وتبنّي أجندات خارجية والوعود الواهية لشعب لبنان العظيم. وفي حقيقة الأمر، إنّ مؤلّف المسرحية جورج خبّاز لم يكن هدفه إنعاش ذاكرة جمهوره عن أحداث تاريخية بشعة، بل صبّ رسائله باتجاه حفرة عميقة يغرق فيها الشعب اللبناني اليوم. ذهب خبّاز إلى الحقيقة المرّة التي يرفض كل لبناني تقبّلها، فتحدّث عنها بصورة تهكمية مبكية، مضحكة، نافرة، مليئة بالتعصّب والطائفية. حتى إنه عرّج على عمالقة الفن الذين حملوا اسم لبنان عالياً وتغنّوا بجماله بأسمى اللغات الوطنية والانسانية، فتغزلوا بجميع مناطقه ولم يدخلوا يوماً في دوّامة خطوط التماس التي تفرّق ولا تجمع.
القناصان الواقعان في مأزق واحد جمعتهما علاقة إنسانية أخوية، كلاهما يريد الحياة الأفضل لعائلته، وكلاهما يدافع عن أرض الوطن من "الأعداء"، وكلاهما متمسّك بالنخوة اللبنانية الأصيلة وكلاهما يرغب في التأكيد أنه ليس "خيال صحرا"، ولكنّ كليهما مطلوب منه الوقوف في وجه الآخر. لهذا السبب تقدّم خبّاز في أحداث المسرحية إلى ما بعد عام 1975 ووصل بها إلى عام 2020، فترة مفصلية أخرى في تاريخ لبنان بعد جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت وأوضاع اقتصادية ومعيشية مأسوية. توقّف خبّاز عند هذه الحقبة الزمنية بعدما رسم مشهداً غير متوقّع شكّل بداية عبثية للمسرحية طرحت العديد من الأسئلة.
حضر الجانب التوثيقي على شاشات المسرح حيث عُرضت مشاهد من الذاكرة، وخصوصاً منها مرحلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في إعادة النهضة والإعمار، فيما نُكّهت الحوارات بفواصل إعلانية أتت على شكل عرض موسيقي راقص من خبّاز وكرم وأغنيات لا شكّ في أنها بمضمونها لن تمر مرور الكرام.
لقد اشتاقت خشبة المسرح لدعسات جورج خباز الرشيقة. إبداعه موقّعاً بنفسه الإنساني المعروف تارة يضحكك بإفيهاته الطريفة وتارة أخرى يجعلك تحدّق به وتنصت لمضمون الرسالة الذكيّة التي طالما جهد في إتقانها، تراه في "خيال صحرا" حرّاً رغم حرقة ما ينطق به، هذه هي مدرسة جورج خباز.
في المقلب الآخر، ترى عادل كرم في قمة استمتاعه لانضمامه إلى هذه المدرسة، يذكّرنا في بعض الحوارات بشخصية عادل التي ألفناها على شاشة التلفزة، ثمّ يفاجئك بأدوات جديدة قرّر تجربتها كتحية منه إلى خشبة مسرح يبدو أنه وقع في غرامها رغم اللقاء الحديث بينهما.
لم يهدف خبّاز من المسرحية إلى توجيه صرخة بصوته أو بصوت عادل كرم، بقدر ما كانت دعوة منهما لحث الجمهور على الخروج بصرخة وطنية موحّدة تخلّصه من استمرار اعتباره "خيال صحرا" في أرضه وتوقف مسلسل التفرقة بين أبناء وطن تجمعهم قواسم جوهرية مشتركة قادرة على تحويل حلمهم بالتغيير إلى حقيقة وتتفادى مقولة نهاية المسرحية: "كنت أحلم بأن أكون قدوة، ولم أكن أعلم أنني سأصبح عبرة".
يستمر عرض المسرحية على خشبة مسرح كازينو لبنان طيلة شهر آب الجاري ولشهر واحدٍ فقط. وهي من كتابة وإخراج جورج خبّاز، تمثيل خبّاز وكرم وإنتاج طارق كرم.