تدفع محاولة اغتيال الروائي سلمان رشدي فتاوى هدر الدمّ وإقامة الحدّ وازدراء الدين إلى الواجهة. تفتح دفاتر التاريخ والماضي القريب والحاضر، لتعيد جدلية الدين والحريات، وما ناله أدباء ومفكرون وناشطون من نصيب دسم من هذه الأحكام التي نُفّذ الكثير منها من دون أن يأخذ طريقه إلى الضوضاء، كما الحال مع الكاتب الهندي الأميركي، ومع الأديب نجيب محفوظ الذي جاءت محاولة اغتياله بعد نحو 40 عاماً على نشر "أولاد حارتنا"، موضع نقمة التكفيريين. وفي حال رشدي، نفذ الأميركي اللبناني الأصل هادي مطر فتوى الإمام روح الله الخميني بعد 30 عاماً على صدورها، أي في مسافة زمنية تتجاوز عمره البالغ 24 عاماً، بما يحاكي سحر التكليف الذي تتناقله الأجيال.
تفجّر القضية اشتباكاً مزمناً، مُعدمةً المساحات الرمادية. مع القتل باسم الدين ومن أجله، أم لا؟
هو السؤال الذي لا يحتمل المساومة ويعرّي كل شيء.
ألا يحق للملحدين التفوّه بآرائهم كما يحق للمؤمنين بالأديان السماوية رجم الملحدين وتكفيرهم؟ ألا يحق لمفكر مناقشة نص ديني؟ هل الآراء السلبية تجاه الدين الإسلامي تقلّل من انتشاره وتؤثر على اعتقاد المؤمنين به؟ والسؤال ينطبق على الدين المسيحي وغيره أيضاً. وهل تصحّ المغالاة في ملاحقة كلمة وعبارة في زمن تغرقه السوشيل ميديا والمنصات والمواقع بآراء من كل حدب وصوب، ومنها المدين لهذا الدين أو المادح له. في هذه اللحظة يمكنكم من خلال النقر على شبكة الإنترنت العثور على آلاف العبارات والكلمات والنصوص والكتب المجهولة التي تدين ديناً أو تؤيده. هل هناك انتقائية في إصدار الفتاوى؟
الهدف من الأسئلة المبسّطة الآنفة هو الإصرار على الخروج من زمن هيباتيا التي رُجمت حتى الموت في مصر الرومانية لاتهامها بالإلحاد والسحر. اليوم تقام محاكم التفتيش ويقع الحدّ على مواقع التواصل بسبب آراء لا تعجب هذا الطرف أو ذاك. وليس مطلوباً تطويب ثقافة السلام والمحبّة، ولكن هل من الممكن التفرّج على التصفيق للقتل والإلغاء بسبب الرأي. كم سيبلغ عدد الذين "حقّهم رصاصة" حينها؟.
ما يحصل بالغ الخطورة، وتعاظم الخطورة ينبع من اتكائه على فتوى شرعية وتأييد علني وضمني من مسؤولين و"قادة رأي". قد يقول قائل إنها لحظة حقيقة محت التكاذب والتقيّة ومحاولات التمايز بين التيارات الأصولية. وعليه، وجُبت مواجهة الموجة القاسية بجرأة رفض قتل من يرشق مشاعر الآخر بسلاح من حروف، رفض قتله ذبحاً أو رجماً أو إعداماً برصاصة أو هدراً لدمه...
ما يوصف بالاعتداء على مشاعر المسلمين ودينهم يجب أن يواجه في أطر من خارج دائرة العنف. وتمييز تطبيق حرفية النصوص وفق الظروف الموضوعية، ليس بالجديد وإلا لكنّا رأينا أيدي السارقين تقطع حتى اليوم في كل الدول الإسلامية، وليس في عدد منها كما يحصل. وللاجتهاد من ضمن الإيمان مكانه في مقارعة حجج المتمسكين بجمود النصوص، وهو مسار قطع شوطاً مزمناً بدفع من السياسة والاقتصاد وتحوّلات الحكم في أحيان كثيرة.
وجدير بالذكر أن منطق التكفير وهدر الدم الذي يتبناه اليوم مسلمون يُمارس في أحيان كثيرة على مذاهب منهم، كما رأينا في تكفير جماعات أصولية سنية للشيعة، وهي الظاهرة التي نتجت عنها مئات العمليات الانتحارية التي أزهقت أرواح الأبرياء من العراق الى أفغانستان مروراً بلبنان! إنه منطق التكفير السائد.
وينسحب الذود عن الفكر التكفيري الى ديانات أخرى، فهل نسينا ما اقترفت يدي منفذ الهجومين الداميين اللذين استهدفا مسجدين في نيوزيلندا بتعبئة من كراهية المسلمين.
يعيدنا هذا الاشتباك إلى النص الديني الذي استخدم مراراً في لحظات سياسية للاستثمار وظروف تحكمت خلالها جماعات سياسية أصولية بالسلطة أو غالت في استخدام أوتار الدين خلال معارضتها الأنظمة.
وأدرك النص الديني طريقه إلى العديد من الدساتير والقوانين التي استخدمت لرفع دعاوى ازدراء الأديان ضد شخصيات ناشطة في الحقل الفكري في مصر على سبيل المثال. نوال السعداوي، يوسف زيدان، نصر حامد أبو زيد، فاطمة ناعوت، ابراهيم عيسى، إسلام البحيري، وغيرهم من الذين واجهوا قضايا وتهماً من دون المس بحياتهم كما حصل مع المفكر فرج فوده الذي أعدمته جماعة إسلامية بسبب آرائه.
لا يمكن عزل السياسة وحساباتها عن كل ما يجري، لكن الواجب الأخلاقي في هذه اللحظة هو رفض القتل وشجب الدفاع عنه. ليست قصة فتوى عابرة أو حادثة ذبح نجا منها سلمان رشدي أو تحليلات مرتبطة بالاتفاق النووي أو بعلاقة الغرب بالإسلام. خطاب الكراهية الناتج عن تفاعلاتها يؤسس أو يكمل المسار الأخطر.