في حمأة الصراع على موقع رئاسة الجمهورية، والنزاع المستمر على المواقع الدستورية والمناصب الحكومية، ثمّة سؤال يطرح نفسه: "لماذا لا يتولّى الدروز مواقع سيادية وأساسية في البلاد؟ لماذا لا يتولّى هؤلاء موقع رئاسة الجمهورية؟ رئاسة مجلسي الوزراء أو النواب؟ نيابة مجلسي الوزراء أو النواب؟ أو حتى الوزارات السيادية كالدفاع، والداخلية، والمالية وغيرها؟ لماذا لا يتولّى هؤلاء مواقع مصيرية في الدولة كحاكمية مصرف لبنان أو قيادة الأجهزة الأمنية؟
هل هي أسئلة مشروعة بحكم الواقعية السياسية والطائفية التي تحكم البلاد أولاً، وبحكم المادة 95 من الدستور ثانياً، التي تنصّ على... "تكون هذه الوظائف (الفئة الأولى) مناصفة بین المسیحیین والمسلمین دون تخصیص أیة وظیفة لأیة طائفة مع التقید بمبدأي الاختصاص والكفاءة"؟.
تاريخ الدروز في لبنان ودورهم
كان لطائفة الموحدين الدروز دور تأسيسيّ للكيان اللبناني، وحضور سياسيّ ووطنيّ مهم منذ مئات الأعوام، وبالتحديد منذ ولاية جبل لبنان، وهو الدور الذي استُكمل في عهد القائمقاميتين، المتصرفية، لبنان الكبير والمرحلة التي تلت الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، حتى يومنا هذا.
يمتدّ التاريخ السياسي للدروز لعقود إلى الوراء، وترسّخ هذا الدور حديثاً مع آل جنبلاط. وبعيداً عن السرد التاريخي التفصيليّ، كان لبشير جنبلاط دور سياسيّ بارز، فأُعدم بسببه، ثم كان لفؤاد جنبلاط دور، فكمال جنبلاط ووليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي، الذي يملك تأييد أغلبيّة الطائفة الدرزيّة، ويضطلع بأدوار وطنيّة يفوق حجمها نطاق طائفته، من دون إسقاط أو الانتقاص من تمثيل الآخرين مثل آل أرسلان وغيرهم من العائلات الكبرى.
حكم الدروز ولاية جبل لبنان في عهد العثمانيين، لكن دورهم بدأ بالانحسار منذ حرب 1840 الأهلية التي نتج عنها انقسام الولاية إلى قائمقاميتين ذات حاكمين، ماروني ودرزي. واستمر الدور بالتراجع بعد حرب 1860، مع التحوّل إلى المتصرفية، إلى أن بدأت حقبة الانتداب الفرنسي.
بعد الاستقلال، وإطلاق الميثاق الوطني الذي كان ثمرة اتفاق بين بشارة الخوري ورياض الصلح، طغى المرتكزان الماروني والسني على المشهد اللبناني، وتُرجم في توزيع الحصص في السلطة، علماً أن الدروز تبوّأوا في وقت لاحق مراكز سيادية فكان كمال جنبلاط وزيراً للداخلية، ومجيد أرسلان وزيراً للدفاع.
هذا الواقع تبدّل مع انتهاء الحرب الأهلية، و"مُنع" الدروز من تولّي أيّ حقيبة سيادية أو أساسية، بل حُصر دورهم في وزارات خدماتية أو ثانوية، كالمهجّرين، الصحة، التربية وغيرها، علماً أنّهم أدّوا أدواراً أساسية في التاريخ الحديث أيضاً، وكانت مواقفهم دائماً إلى جانب العرب والفلسطينيين، منذ كمال جنبلاط الذي ناصر جمال عبد الناصر والعروبة ودعم فلسطين، مروراً بوليد جنبلاط الذي أكّد على عروبة لبنان بوجه الإسرائيلي، وعلى تعدّدية لبنان وانفتاحه بوجه الوصاية السورية بعد عام 2005، فكان الدروز جزءاً من مشروع لبناني عربي إلى جانب قوى وطنية وسيادية أخرى.
أسباب محتملة لتغييبهم عن المواقع السيادية
بالرغم من وجود كفاءات عديدة في صفوف هذه الطائفة، وبالرغم من تولّي عدد من شخصياتها مواقع مهمّة في الخارج، لعبت المصالح الداخلية والسياسية دوراً في حجب تولّيهم أيّ موقع أساسي في السلطة. وقد يكون غياب أيّ مرجعية دولية داعمة لهذه الطائفة ومواقفها سبب في عدم تثبيت حضورها، بعكس باقي الطوائف ذات المرجعيات، وأحياناً التبعيات، الخارجية، السياسية والدينية، كإيران، فرنسا، السعودية وغيرها، وذلك في ظل النفوذ الدولي ذي التأثير القوي في لبنان.
ولئن لعبت الديموغرافيا بطريقة سلبية بالنسبة إلى الدروز، فإن أحدث دراسة نشرتها "الدولية للمعلومات" في عام 2019، تُظهر أن عدد الدروز في لبنان بلغ 295 ألفاً، في حين بلغ عدد الموارنة 934 ألفاً، السنّة مليوناً و721 ألفاً، الشيعة مليوناً و743 ألفاً، الروم الأرثوذكس 329 ألفاً، والروم الكاثوليك 213 ألفاً.
وإن كان هذا العامل سبباً من أسباب انحسار القوة الدرزية، إلاّ أنّ هناك من حاول أن يعوّض هذا الضعف بمنح الدروز رئاسة مجلس الشيوخ الذي تمّ الاتفاق عليه في اتفاق الطائف. لكن ثمار هذا المجلس لم تنضج بعد، وإلى حين، يبدو أن ترؤس الدروز لهذا الموقع يحتاج إلى تسويات داخلية على ضوء فكرة طرحها النائب جبران باسيل مرة بتولي الأرثوذكس رئاسة مجلس الشيوخ.
ما سبب إبعادهم عن المواقع السيادية؟
المؤرّخ في الشأن الدرزي والباحث حسن البعيني يُشير إلى أن العامل الأساسي خلف عدم تسلّم الدروز مواقع دستورية سيادية وأساسية في البلد هو العدد، "لأنّ عددهم قليل نسبياً، مقارنةً بأعداد مواطني الطوائف الأخرى"، في الوقت الذي يُشير إلى "الدور التاريخي المحوريّ الذي قامت به هذه الطائفة في لبنان منذ عهد التنّوخيين، وإلى الثنائية التي شكّلها الدروز مع الموارنة في التاريخ السياسي الحديث، إضافةً إلى دورهم العسكري وفاعليتهم في الحروب؛ وهذه نقاط تخوّلهم الوصول إلى كافة مواقع الدولة كغيرهم".
وفي حديث لـ"النهار"، يؤكّد صحّة ما ذُكر حول غياب المرجعية الدولية وتأثيرها، ويلفت إلى أن "غياب الدعم الدولي لهذه الطائفة سبب إضافي لخسارتهم المواقع لصالح آخرين يتمتعون بامتداد خارجي"، إلّا أنّه يُشير إلى أن الزعامة التي تمكّن آل جنبلاط من بنائها على مرّ التاريخ كانت العوض عن المواقع الدستورية، خصوصاً أنّها امتدّت على مساحة البلاد في فترات، لاسيما فترة كمال جنبلاط، وكانت زعامة وطنية لا درزية فحسب.
أما بالنسبة إلى مجلس الشيوخ، فيستبعد البعيني أن يكون سبب عدم تأسيسه مرتبط بهوية طائفة رئيسه، والعرف الذي يتحدّث عن وجوب أن يكون درزياً، ويعتبر أن غياب النوايا الإصلاحية لدى العديد من السياسيين حال دون تأسيس هذا المجلس ذي الدور الإصلاحي المهمّ. وهذا يندرج في سياق نهج رفض هؤلاء السياسيين أنفسهم للقوانين والإجراءات الإصلاحية التي كان يجب اتخاذها، كإلغاء الطائفية السياسية على سبيل المثال لا الحصر.
الحضور السنّي والصعود الشيعي
يعود مدير كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية – الفرع الأول جهاد بنّوت إلى تجربة الدروز الإدارية في الحكم، منذ عهد إمارة جبل لبنان، ويعتبر أن الدور الذي يؤدونه اليوم في الحياة السياسية اللبنانية ينطلق من تلك التجربة. لكنّه يرد التراجع الحاصل على صعيد المراكز الدستورية وغيرها إلى تبدّل موازين القوى على مرّ الزمن، بعد التدخّل الخارجي الذي حصل في المنطقة، والتدخّل الأوروبي بشكل خاصّ في بلاد الشام.
وفي حديث لـ"النهار"، يقول إن "هذا التدخّل صبّ في صالح المسيحيين. وبعدما كانت السيطرة على جبل لبنان للدروز وحدهم، حصل التوازن مع نظام القائمقاميتين، وبات الحكم تكاملياً مسيحياً - درزياً، إلى أن تمّ تطبيق نظام المتصرفية، فكان الأخير انقلاباً لصالح المسيحيين، والموارنة بشكل خاص، على حساب الدروز".
ويُشير بنّوت إلى أنه "بعد عام 1920، ومع نشوء دولة لبنان الكبير، انضم السنّة، وباتت المواقع التابعة للمسلمين تقسّم بين الدروز والسنّة، ممّا أضعف الحضور الدرزي نسبياً بعدما كانوا يحتلّون أغلب المواقع في المتصرفية، إلى أن حان موعد الصعود الشيعيّ، فحصلت مزاحمة بين الطوائف الإسلامية على المواقع المخصّصة لهم، فخسر الدروز مكتسبات إضافية".
ويعتبر بنّوت أن "الديموغرافيا ظلمت الدروز من جهة، نسبةً لأن عددهم أقلّ من السنة والشيعة، وغياب الدعم الخارجي أيضاً ساهم في خسارتهم المواقع الدستورية". لكنّه يلفت إلى ثقلهم السياسي الموجود الذي استمدوه من الأدوار الأساسية التي لعبها الراحل كمال جنبلاط في وقت سابق، ثم مع وريثه الوزير السابق وليد جنبلاط".
ويذكر نقطة مهمة بقوله إن "للتموضع السياسي دور في الفوز بالمواقع الدستورية. ومن المعروف أن جنبلاط تموضع في جهة المعارضة وليس الموالاة في السنوات الأخيرة، وكان من الطبيعي ألا يمنحه فريق السلطة مواقع أساسية نسبةً إلى الخصومة. ولو كان الحكم في صف جنبلاط، لكان للدروز حضور على صعيد المواقع السيادية، مع الإشارة إلى الدور الأساسي الذي أدّاه جنبلاط خلال الحرب الأهلية، ثمّ مشاركة حزبه الفعّالة في الحكومات والإدارات بعد اتفاق الطائف وانتهاء الحرب".
"رفض منح هذه الفئة حقائب سيادية"
أما من جهته، فيُشير الكاتب والباحث السياسي فوزي أبو ذياب إلى أن "السبب الرئيسي خلف عدم تولّي الدروز مواقع أساسية سياسيّ بامتياز، إذ ثمّة جهات في البلد معارضة لسياسة جنبلاط و"التقدمي"، وترفض منح هذه الفئة حقائب سيادية أو أساسية، فضلاً عن الامتداد الخارجي الغائب عن هذه الفئة وعدم وجود مرجعيّة لهم كغيرهم، ممّا يُترجم غياباً لدعم وصولهم إلى المواقع الأولى في البلاد".
وفي حديث لـ"النهار"، يلفت إلى أن "السياسة الوسطية التي يعتمدها جنبلاط، ورفضه تعطيل الاستحقاقات، منها تشكيل الحكومة على سبيل المثال، لتحصيل حقوق طائفية هو سبب إضافي. وبالعودة إلى التاريخ القريب، فإن جنبلاط لم يعطّل تشكيل أي حكومة لضمان مكتسبات وزارية لحزبه وطائفته، وكان دائماً من الداعين إلى تأليف الحكومات بشكل سريع".
وفي السياق نفسه، يعتبر أبو ذياب أن "جنبلاط كرّس نفسه كرئيس رابع إلى جانب الرؤساء الثلاثة، وبات مرجعاً سياسياً يؤدي أدواراً وطنية غير محصورة بطائفته، فيقرّب وجهات النظر، ويسعى لإنجاز التسويات، (وآخر المساعي كانت حركته الرئاسية قبل فترة وجيزة)، ممّا جعله ينأى بنفسه عن الصراع الذي يحصل كلّ فترة حول توزيع الحصص الوزارية والتعيينات الإدارية، لا بل استغنى عن مواقع لتسيير شؤون البلاد".
الدعم الخارجي المفقود
البروفيسور في العلوم السياسية جورج شرف يذكّر بتاريخ الدروز ودورهم التأسسيسي للكيان اللبناني إلى جانب الموارنة، وينطلق منه ليُشير إلى أن "الدروز كانوا يتبوّأون مواقع أساسية في الدولة على إثر تقاسم الحصص مع السنّة فقط على صعيد المسلمين"، لكنّه يلفت إلى أن "صعود الطائفة الشيعية بدّل موازين القوى، وأعاد توزيع المواقع على الطوائف الإسلامية، فباتت الأفضلية للسنّة والشيعة".
وفي حديث لـ"النهار"، يشدّد على أنه "في علم السياسة، لا يُمكن تجاهل موازين القوى الداخلية والخارجية. وانطلاقاً من هذا المبدأ، فإن غياب الدعم الخارجي للدروز يؤثّر على ثقلهم في هذا الميزان، إضافةً إلى أن الدول الخارجية تتعاطى مع الفئات الداخلية (الطوائف على صعيد لبنان) التي تربطها بها صلات عقائدية، إيديولوجية، سياسية، مصلحية وغيرها، وهذه العلاقات تغيب بين الدروز والمجتمع الدولي".
إلّا أنّه يلفت إلى دور الدروز الفاعل في الحياة السياسية اللبنانية، ويعتبر أن تأثيرهم واضح بمعزل عن مواقعهم الدستورية وموقعهم في الخريطة الديموغرافية. لكنّه في الآن عينه يشدّد على "وجوب عدم تهميش أي فئة ودورها، حتى ولو كان عدد مواطنيها قليلاً، خصوصاً الدروز، الذين يتمتعون بالدور التاريخي المذكور سلفاً".
يقول كمال جنبلاط إن "القاعدة الطائفية تشكّل حجر عثرة في سبيل الكفاءة"، وقد يكون قائل هذه الحكمة نفسه وحزبه ضحيتها، لكنّه في الوقت عينه يصنع الحضور السياسي المواقع، وليس العكس. وقد استطاعت القيادات الدرزية القيام بأدوارٍ وطنية وسياسية أساسية في مختلف حقبات الكيان اللبناني.
وبانتظار إلغاء الطائفية السياسية، ليُصبح الحكم على أساس الكفاءة وليس المذهب، ويكون للجميع، من دون تمييز، يُمكن القول إن عوامل كثيرة أدّت إلى انحسار تمثيل الدروز في مراكز السلطة، منها التاريخية، والسياسية، والتحالفات العابرة للحدود، خصوصاً أن الدروز يُصنّفون من ضمن الطوائف المسلمة في لبنان. من هنا، تعمل الديموغرافيا بين الفئات المسلمة دوراً في توزيع المراكز وتحديد معايير التمثيل في السلطة، فيما تموضع الدروز في المقابل إلى جانب فكرة لبنان أولاً، التي كانوا بالأساس ممّن عملوا لها تاريخياً وحديثاً، وإلى جانب السيادة والحرية والاستقلال، يجعلهم يدفعون ثمن استبعادهم عن المراكز الحسّاسة في زمن هيمنة "الشيعية السياسية".