مع ان أسبوعا كاملا لا يزال متبقيا قبل موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلف بتشكيل حكومة جديدة بما يبقي مبدئيا الهامش واسعا امام الكثير من الاحتمالات التي تكتنف هذا الاستحقاق، فان المعطيات السلبية التي ترجح كفة نشوء ازمة جدية وطويلة في تأليف آخر الحكومات في عهد الرئيس العماد ميشال عون تطغى بقوة على الاحتمالات الإيجابية. ولعلها من المفارقات الساخرة ان تبدو الحلقة ما قبل الأخيرة في الاستحقاقات الأساسية التي سيبقى على العهد العوني ان يواجهها قبل حلول استحقاق نهاية ولايته واجراء الانتخابات الرئاسية لانتخاب خلف له، الأشد تعريضا للعهد لسلاح طالما بادر هو نفسه مع حلفائه الى استعماله في وجه خصومه وهو سلاح التعطيل الذي تلوح بوادره من الآن في أفق استحقاق تشكيل الحكومة الجديدة.
ذلك انه قبل تفصيل المعطيات التي تنذر بأزمة تأليف حكومة جديدة، تعود أوساط معارضة بشدة للعهد العوني بالذاكرة الى ان سلاح التعطيل لم يكن حصراً على ممارسات العهد وتياره السياسي برئاسة النائب جبران باسيل في كل الاستحقاقات الحكومية الخمسة التي تعاقبت خلال عهده فحسب، ولا في اخضاع آليات اتخاذ القرارت في مجلس الوزراء لممارسات التعطيل لفرض اجندة العهد و"التيار الوطني الحر"، الامر الذي أدى الى تداعيات كارثية في قطاعات حيوية اولها وابرزها الكهرباء، بل يتعين العودة الى جذور هذه الممارسات "التشاركية" بين الزعيم المؤسس للتيار قبل انتخابه وحليفه "حزب الله" منذ فجر "تفاهم مار مخايل" الذي ثبت ان كل بنوده المكتوبة لم تكن سوى الغطاء الشكلي لنهج تعطيلي انقلابي اتُّبع بدقةٍ ودأبٍ منذ العام 2006 حتى الساعة. وتلفت الأوساط المعارضة هذه الى ان سيرة التعطيل مع الحكومات بدأت منذ زمن بعيد، وكان أحد أسوأ نماذجها يوم تطوّع العماد ميشال عون قبل انتخابه بخمس سنوات لكي يجمع في دارته في الرابية وزراء فريق الثامن من آذار ويعلنوا منها استقالاتهم الجماعية في لحظة دخول الرئيس سعد الحريري الى البيت الأبيض لمقابلة الرئيس باراك أوباما. تلك الواقعة الشهيرة، مع انها كانت واحدة من نماذج تعطيلية انقلابية لا تحصى، تقول الأوساط نفسها انها شكلت النموذج الأكثر تعبيراً عما يمكن ان يذهب اليه نهج يستسهل شهر سلاح التعطيل لتحكيم مصالحه وارتباطاته، الامر الذي تمدد لاحقا خلال سنوات العهد العوني في أساليب متنوعة ومتجددة بلوغاً الى اللحظة الراهنة. اذ لا يمكن القفز بتجاهل دلالات تحديد موعد الاستشارات بعد شهر واسبوع من موعد الانتخابات، ليس من الناحية الزمنية فقط، بل ان الرسالة الأكثر مدعاة للتوقف عندها تتمثل في ان العهد بدا ذاهباً الى استعادة ما دأب عليه منذ بدايته لجهة ترك رئيس تياره يتدخل في رسم خريطة الاشتراطات الخاصة به للتحكم بالاستحقاق الحكومي تكليفا وتأليفا ممهداً لمعركة تتراءى معالمها من الآن في أفق المسار المعقّد لتشكيل الحكومة. وتشير الأوساط المعارضة في هذا السياق الى انه قبل أربعة اشهر ونصف شهر من نهاية عهد عون، كان يُفترض بسيّد هذا العهد، ولمرة واحدة وأخيرة، ان يمنع إقحام تياره وإظهار هذا التدخل الفجّ الاستباقي في الاستحقاق، لان أحداً لا يسلّم بهذه الكذبة الجوفاء التي لطالما استُعملت لتبرير "الحضور الباسيلي" الساحق في رسم سياسات العهد وتوجيهها على النحو الذي جعل باسيل حاكم الظل الفعلي بفعل إسلاس عون القياد له بلا حدود. في إعلانه الشروط الاستباقية الأخيرة في وجه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، كان باسيل في رأي هذه الأوساط يطلق الرسالة المؤكدة بان رئيس الجمهورية ليس في وارد التراجع ابدا عن نمط الحكم الذي اتبعه من خلال تحكيم مصالح تياره وعدم التزام سياسات الحكم الموضوعي حتى عند مشارف نهاية الولاية.
وتبعا لذلك، وهنا بيت القصيد، تلفت هذه الأوساط الى ان الظروف الداخلية المعقدة التي نشأت حتى بعد قيام مجلس النواب المنتخب على الصورة التي هو عليها، كما الظروف التي سيمليها بدء العد العكسي لنهاية عهد عون ولو من دون أي تصورات مسبقة مضمونة لما سيؤول اليه الاستحقاق الرئاسي، ستدفع بمعظم القوى الى منع العهد وتياره من تحقيق مآربهما في المرحلة الانتقالية بدءا من استحقاقي التكليف والتأليف بحيث يجري العمل بقوة بين عدد من القوى والكتل للحؤول دون فرض شروط العهد وتياره وتعطيلها حتى لو أدى الامر الى نشوء ازمة تأليف مفتوحة واستمرار حكومة تصريف الاعمال حتى نهاية العهد. وتشدد الأوساط نفسها على ان خطأ الذين يقيمون حساباتهم في الاستحقاق الحكومي على تجربة انتخابات رئاسة المجلس وهيئة مكتبه لان الامر في التجربة الحكومية سيختلف تماما عما كان عليه في انتخابات رئاسة المجلس. فهنا ستبدأ حسابات متصلة مباشرة باستحقاق حلول نهاية العهد وما بعدها بما سيؤدي الى خلط أوراق واسع وربما مختلف تماما عن تقاسيم الفرز السياسي والنيابي الذي واكب الجلسات الأولى لمجلس النواب المنتخب، وستظهر تجليات الحسابات المغايرة والجديدة بدءا من يوم الخميس المقبل في استحقاق الاستشارات النيابية للتكليف ومن ثم بعدها مع مشاورات التأليف ما لم يسفر خميس الاستشارات عن نتائج مفاجئة يتعين انتظار الأيام المقبلة لمعرفة ما اذا كانت واردة. وفي مجمل الأحوال، فان الأوساط نفسها تتحدث عن معركة حادة تنتظر العهد اذا مضى كما يبدو الآن في محاولات فرض اجندته الحكومية للتحكم بالمرشحين المحتملين لرئاسة الحكومة كما لضمان آخر جولات فرض مآربه ومطالبه تحسباً لفراغ رئاسي يورثه العهد للبلاد بعدما كان مجيئه الى بعبدا ثمرة نهج الفراغ .