في كل مرّة تعرض إيران خدماتها الاقتصادية "المجّانية" لدعم دول تنتشر فيها جماعاتها في المنطقة، تعود الأسئلة نفسها، "كيف تساعد إيران دولاً وهي نفسها تحتاج إلى المساعدة؟ وما هي الأهداف من خلف هذه المساعدات؟"، ويترافق الأمر مع نقاش داخلي ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي عن نوايا الجمهورية الإسلامية من خلف خطواتها "الإنسانية".
ففيما يرى البعض من الجمهور، الذي ينتمي إلى فريق 8 آذار، في العروض مساعدات للصمود بوجه العقوبات والإهمال الدولي، وتحدّياً للسياسات الغربية والأميركية بشكل خاص، يعتبر آخرون أن طهران تسعى لتنفيذ أهداف سياسية مبيّتة مرتبطة بنفوذها في الإقليم وتوسّعها، على اعتبار أنها دولة لها موقعها في المنطقة والعالم، وليست منظمة خيرية.
من الثابت أن ما من مساعدات دولية مجّانية، وخلف كل عرض ثمّة أهداف سياسية، وهذا ما ينطبق على إيران وطروحاتها لمساعدة لبنان ودول أخرى تتمتّع بنفوذ قوي فيها، وما يعزّز تلك النظرية معاناة إيران من واقع اقتصادي ومالي صعب على إثر ضغوط العقوبات الدولية، يؤجّج تحركات شعبية بين الحين والآخر تتسع رقعتها مع الوقت. فطهران لا تتمتّع بفائض أموال، وبالتالي كل إنفاق لا بد أن يكون ذات منفعة سياسية أو اقتصادية.
انطلاقاً من تلك النقطة، ومع عرض طهران إرسال 600 ألف طن من الفيول إلى لبنان لانتشاله من أزمة الكهرباء، والعروض التي تقدّمت في وقت سابق وارتبطت بمجالي الأمن والطاقة، نستعرض في التقرير عدداً من المساعدات التي عُرضت ولكن لم تُترّجم على أرض الواقع، كما ونذكر جانباً من الوضعين الاقتصادي والاجتماعي المتردّيين في إيران منذ سنوات وحتى اليوم، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام الإيراني.
عروض مساعدات في مجالات مختلفة
مع تنامي جدلية سلاح "حزب الله"في الداخل اللبناني، وما رافقه من محاججة برفض أميركي لتسليح الجيش، كان الحديث دائماً عن موانع غربية لتقديم إيران أسلحة للجيش. ومع استفحال أزمة لبنان الاقتصادية في العام 2019، وتوزّع مسار عرض المساعدات بين عروض مساعدات عسكرية للقوى الأمنية، وأخرى متعلقة بالمحروقات والطاقة لتامين الكهرباء.
في بداية العام 2019، زار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بيروت، وعرض تقديم مساعدات عسكرية للجيش، لكن العملية لم تحصل وذلك بسبب الرفض اللبناني الرسمي، لأن عتاد القوى الأمنية بشقّه الأكبر مصدره الولايات المتحدة والغرب، والتعامل مع إيران عسكرياً سوف يضع لبنان أمام خطر العقوبات والحرمان من الدعم العسكري - الأمني.
في العام 2020، وأثناء زيارة رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني للبنان، عرض الأخير مساعدة إيران لبناء معامل كهرباء، وهي عروض توالى الحديث عنها منذ العام 2006، لكن بقي الطرح حبراً على ورق، مع العلم أن الحكومة كانت آنذاك برئاسة حسان دياب، وحكومة اللون الواحد التي شكّلها فريق 8 آذار، وكان من الممكن أن توافق لو توفّرت النية السياسية لدى عرّابيها، "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، لكن الثنائي يعلم حجم وقع العقوبات التي سيواجهها لبنان.
في العام 2021، عانى لبنان أزمة شح محروقات بسبب تقنين الاستيراد، فاصطف المواطنون بطوابير أمام المحطات. حينها، عرضت إيران إرسال المحروقات إلى لبنان، وعلى الرغم من عدم تلقيها جواباً من السلطات اللبنانية، قرّر "حزب الله" المضي قدماً واستقدام الشحنات، فكانت أول تجربة إيرانية حقيقية لمد لبنان بالمساعدات. لكن الواقع لم يكن على قدر الآمال، والكميات لم تكن كافية لانتشال السوق اللبناني من أزمته ولا حتى للتخفيف من وطاة الأزمة لأن الطوابير بقيت على حالها، ولم يدم استقدام المحروقات لأكثر من شهرين، علماً أن سعرها كان قريباً لسعر محروقات السوق الداخلي وليس تنافسياً، كما أثيرت شكوك حول جودتها.
هذا في الشق الرسمي، ولدى الحديث عن "الغرف" من الخزانة الايرانية التي يموّلها شعبها، وجب التذكير بالميزانية الهائلة المرصودة لـ"حزب الله".
ما مدى جدّية عروض إيران؟
يعاني الداخل الإيراني نفسه من الأزمات المتراكمة والتي تنعكس على معيشة مواطنيه، فتبقى هذه العروض في إطارها الإعلامي لاستثمارها سياسياً من قبل "حزب الله".
وتشهد إيران نقصاً في انتاج الطاقة الكهربائية، ما يؤدّي إلى التقنين الذي يكون قاسياً في بعض الأحيان، فتنقطع الكهرباء عن المحافظات لبضع ساعات. وفي الكثير من الأحيان، تتأثّر قطاعات بسبب التقنين، منها الزراعة بسبب وقف مضخات جر المياه والري عن العمل. وأدى هذا التقنين إلى تظاهرات في السنوات السابقة.
وفي هذا السياق، أعلنت السلطات عن تدابير جديدة لمواجهة عجز الكهرباء خلال موسم الصيف، تمثّلت في تغيير ساعات عمل الهيئات الحكومية في البلاد. وعلى الرغم من امتلاك طهران موارد هائلة من النفط والغاز، فإنها تواجه أزمة في الكهرباء مستمرة منذ سنوات عدة، بسبب الفجوة بين الطلب والعرض، وفق ما نقل موقع "الطاقة" المتخصّص في شؤون الطاقة.
العملة المنهارة تخلف فقراً وتضخماً
لا تتوقف تداعيات الأزمة الاقتصادية عند قطاع الكهرباء فحسب، بل إنها تطال كافة جوانب عيش الإيرانيين الذين فقدوا قدرتهم الشرائية، وبلغة الأرقام، تتجاوز نسبة التضخم عتبة الـ40 في المئة سنويا منذ العام 2018، علماً أن هناك من يرى أن النسبة الحقيقية تفوق ذلك بكثير.
وتتسارع وتيرة ارتفاع النسبة منذ الإجراءات الحكومية التي قضت بتعديل نظام الدعم ورفع أسعار مواد أساسية مثل الطحين واللحوم والبيض وزيت الطهو، إضافة إلى رفع أسعار المحروقات.
وفي وضع مشابه للمشهد في لبنان، تعاني إيران أيضاً على الصعيد النقدي بعدما انهارت قيمة العملة الوطنية بنسبة وصلت إلى 500 في المئة. وأدى هذا الوضع إلى زيادة نسبة الفقر في إيران، حيث كشف رئيس غرفة تجارة طهران، مسعود خوانساري، في العام 2021، أي حينما عرضت إيران مساعدة لبنان بالمحروقات، أن 30 في المئة من عدد سكان إيران البالغ 85 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر.
لا قرار لبنانياً بالتعامل مع إيران اقتصادياً
الباحث المتخصص في الشأنين التركي والايراني ميشال نوفل يؤكّد جدّية العروض الإيرانية، لكنه يُشير إلى أن "لا قرار لبنانياً بدخول إيران على الخط الاقتصادي الداخلي، وذلك بسبب تعقيدات السياسة المحلية وحسابات بيروت مع العواصم الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص في ظل صراع المحاور، إضافةً إلى القلق من العقوبات".
وفي حديث لـ"النهار"، لا ينفي نوفل وجود أهداف سياسية خلف المساعدات، لكنه يلفت إلى "توجهات النظام الإيراني التي تنص على مبادئ تتعلّق بالعلاقات مع الدول، لاسيما المجاورة، تحتّم تطوير العلاقات والتعاون، وهذا ما يعمل عليه الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة".
ورداً على سؤال عن صعوبة الوضع الاقتصادي الداخلي في إيران، يذكر نوفل أن "لكل دولة أزماتها الداخلية، لكن ذلك لا يمنعها من إطلاق برامج المساعدات لدعم دول أخرى، وهذا ما يحصل بين فرنسا ودول الجنوب مثلاً، ورغم الكلفة الاقتصادية والاجتماعية العالية للعقوبات على إيران، فإن ذلك لا يمنعها من تقديم المساعدات".
دعايات إعلامية يستثمرها "حزب الله"
الكاتب والناشط السياسي مصطفى فحص يرى في عروض المساعدات دعاية إعلامية من خلفها أهداف سياسية يستفيد منها "حزب الله"، الذي رمى الكرة بملعب الدولة اللبنانية، ويقول فحص: "في حال رفضت الحكومة العرض الإيراني، فإن الحزب سيصوّب عليها ويتهمها برفض المساعدات، وسيصوّر إيران على أنها مقدّمة الدعم للبنان".
وفي حديث لـ"النهار"، يُشير فحص إلى تجربة إرسال المحروقات في وقت سابق، ويذكّر بأن "الحزب حينها اضطر إلى إفراغ الحمولات في طرطوس ونقلها إلى الداخل اللبناني بسبب رفض أي شركة لبنانية التعامل في هذا الملف نسبةً لخطر العقوبات".
في هذا الإطار، يؤكّد أن "لا قدرة على الاستفادة من العرض الإيراني إلّا في حال صدور استثناءات من العقوبات، وهذا الأمر مُستبعد، فواشنطن لم تصدر إعفاءات بعد على مرور الكهرباء الأردنية من سوريا، فهل ستسمح بالتعامل مع النظام الإيراني المعاقب مباشرةً؟".
ويلفت إلى معاناة الشعب الإيراني من الضغوط الاقتصادية التي تنعكس مباشرةً على ظروفهم المعيشية، وهو سيرفض إرسال هذه المساعدات إلى لبنان، ويتسبب هذا الأمر في حساسية ويؤدّي إلى اندلاع احتجاجات في الشارع، على خلفية دعم إيران لدول أخرى في ظل معاناة شعبها.
"حزب الله" يراعي الحسابات ويتفادى العقوبات؟
إلى ذلك، يرد الصحافي الإيراني محمد غروي رفض لبنان لكل المساعدات التي تتقدّم منذ سنوات إلى القلق من التعرّض إلى عقوبات، ويُشير إلى أن "مختلف الحكومات لم تصمد امام الضغوط الغربية لرفض أي تعامل اقتصادي مع إيران".
وفي حديث لـ"النهار"، يعود إلى تجربة استقدام المحروقات من إيران، ويقول إن "حزب الله لم يرد استيراد كميات أكبر نظراً لأن الشحنات حقّقت هدفها بكسر الشح الذي عانت منه الأسواق آنذاك وتامين وفرة المواد".
وعن تجاهل حكومة حسان دياب ذات اللون الواحد لعروض إيران الهادفة إلى بناء معامل كهرباء، يعتبر غروي أن "حزب الله" أراد "مراعاة حسابات دياب الشخصية وحكومته، وتفادى إنزال الضغوط عليهما، خصوصاً وأن قبول العروض كان سيعقّد الأمور حينها على صعيدي الاقتصاد والعقوبات".
لا شك أن لإيران أهدافاً سياسية تخدم مخططاتها التوسّعية خلف عرضها للمساعدات، فهي ليست منظمة خيرية تُعنى بشؤون المهمّشين ولو أنها رفعت لواء "نصرة المستعضفين" الذي يبقى في الإطار الإعلامي لاستثماره سياسياً. كما أن استغلالها الوضع الاقتصادي الصعب في لبنان لتقديم نفسها على أنها الداعم، لا يصب سوى في سعيها لمزاحمة التدخّلات الخارجية التي تحصل في لبنان لضمان مقعد لها، بعدما فرضت وجودها السياسي من خلال "حزب الله".