استحوذ سقوط عدد مرتفع من المقاتلين في صفوف "حزب الله" على انتباه المراقبين، ولا سيّما أن ما يجري على الحدود بين الحزب والإسرائيليين لم يرقَ بعدُ إلى حرب واسعة ومفتوحة بل يتركّز على عمليّات موضِعيّة متبادلة بين الفريقين.
فقد "حزب الله"، بحسب إعلامه الرسمي، 37 مقاتلاً حتى مساء الثلثاء. ولا يكاد يمرّ يوم منذ بدء المناوشات مع الإسرائيلي إلا ويسقط فيه مقاتلون.
وفيما لا يتكلّم "حزب الله" رسمياً على المجريات العسكرية، التي تدار بسِريّة تامّة، يكشف مقرّبون من الحزب عن سبب الخسائر البشرية؛ فما يجري اليوم لا يُشبه واقع حرب تموز 2006، ولا مرحلة ما بعد الـ2006، وصولاً إلى مرحلة طوفان الأقصى، إذ ما يجري في الجنوب ليس سوى جبهة مفتوحة، أو اشتباك مفتوح؛ وهذا ما لم يحدث قبلاً بهذه الطريقة.
تمتدّ الجبهة المفتوحة من رأس الناقورة ساحلاً حتى جبل الشيخ، حيث يتموضع الإسرائيليون في 52 موقعاً، على مساحة تفوق 100 كيلومتر، فضلاً عن مواقع خلفيّة من مراكز رصد واستطلاع، وهي في ذروة الاستنفار، بالإضافة إلى إطباقٍ استخباراتيّ ورصدٍ وترصّد تجسّسي، وعناصرها العاملون مزوّدون بكاميرات ليليّة وحراريّة، هذا عدا عن التجهيز المتقدّم لهذه المواقع دفاعيّاً بتجهيزات وآليّات عسكريّة من الأكثر تطوّراً في العالم، بدءاً من الميركافا وهبوطاً.
وبرأي المقرّبين، على الرغم من ذلك، استهدف "حزب الله" هذه المواقع، وأصاب مقاتلوه هذه التجهيزات والآليات وأوقعوا خسائر كبيرة في الأرواح وفي الدفاعات. وهذه المرّة لا يعمل الحزب على طريقة "اضرب واهرب"، ومثل الطرق السابقة كالإغارة على موقع والانسحاب منه أو زرع عبوة والانسحاب. وعلى هذه الجبهة، لـ"حزب الله" مواقع معروفة وغير معروفة، ونقاط سريّة وغير سريّة، منتشرة على طول الحدود، ولديها عديد، وهذا العديد يتبدّل ضمن دوامات خدمة.
إزاء ذلك، يملك الإسرائيلي تفوّقاً من الجوّ، وهذا معروف. وهو يعمد إلى استعماله بطريقة مكثّفة. وإن اغلب مَن سقطوا أو جميعهم استُهدفوا من الجوّ بالمسيّرات.
ويضيفون أنه على الرغم من طول الجبهة، فهي لم تُفتح بعد على العمق، وهذا يمنح الإسرائيليين قدرات رصد كبيرة. ففي المعارك المفتوحة، تتشتّت أدوات الرصد على مساحات واسعة، ومسرح عمليات ممتدّ، وهذا ما يُعطي المقاتلين قدرة أكبر على المناورة.
إلى ذلك، يقوم الجيش الإسرائيلي بدور دفاعي كامل. في المقابل، يمارس "حزب الله" مهامَّ وتكتيكات هجوميّة، وهذا يُعطي - نظرياً - أفضلية للمدافع، ويُكبّد المهاجم خسائر أكبر، علماً بأن هذا لا يحصل في حالتنا، إذ إن عدد قتلى وجرحى الجيش الإسرائيلي كبير جداً.
في المحصلة، هي مرحلة جديدة، و"حزب الله" ليس بوارد إخلاء مواقع، بل سيبقى في مواقعه. وهذا ما يمكن أن يستتبع ردوداً، ممّا سيؤدي إلى وقوع أضرار في الأرواح؛ وهذا سيستمر في الأيام المقبلة طبعاً، مع محاولات التعاطي مع جميع التكتيكات الحديثة؛ فالمعركة قاسية جداً، وفيها محاولات لكسر الإرادة القتالية، وتثبيت قواعد اشتباك. وبناءً على ذلك، سقوط المقاتلين طبيعيّ في اشتباكات كهذه.
وفي هذا السياق، يرى الخبير العسكري والاستراتيجي العميد ناجي ملاعب أن "إسرائيل، من خلال وسائل رصد وأقمار اصطناعية وغيرها، استُقدمت حديثاً من الدول الغربية، ومن أميركا تحديداً، تستطيع تكثيف المراقبة، والجبهة مراقبة بشكل مكثّف ومتطوّر".
ويقول لـ"النهار": "نشهد تطوير المسائل التقنية من الإسرائيلي، وما لا تملكه زُوّدت به في الأيام السابقة، وعلينا ألا ننسى أن 45 طائرة عسكرية حطّت في إسرائيل، وهي تحمل جميع أنواع الذخائر والقنابل والآليّات الحديثة، بما يوازي ألف طن".
ويرى أن "الخسائر تحصل بسبب المراقبة الجوّية والرصد المتقدّم. فإن كان الاختراق البريّ في حرب تموز 2006 تمّ عبر خطوط معروفة، وبالدبابات، فهذا لا يحصل اليوم. ويجب علينا ألّا ننسى أن "حزب الله" يقاتل على جبهة كبيرة جداً، وهي 105 كيلومترات، وهناك "زنّار نار" من رأس الناقورة حتى مزارع شبعا؛ هي منطقة مشتعلة، والانتقال مراقب فيها؛ لذلك هناك خسائر بشرية في جانب حزب الله".
وكان النائب محمد خواجة قد قال لـ"النهار" إن عناصر الحزب "يعرّضون أنفسهم للخطر تجنّباً لدخول القرى الجنوبية في مرحلة خطر القصف الإسرائيلي المباشر. ولهذه الغاية تعمد المقاومة إلى ضرب الصواريخ من مسافة قريبة جداً من الشريط الحدودي، وهذا ما يؤدّي إلى ارتفاع عدد شهدائها. وبالتالي، يمكن القول إن المقاومة حريصة جداً، وتضحّي من أجل عدم إدخال لبنان في أيّ معركة كبيرة".
بدوره، يرى الخبير العسكري العميد أمين حطيط أن الخسائر البشرية لـ"حزب الله" تعود لسببين: "أولاً اعتماد "حزب الله" استراتيجية جديدة وهي الاستراتيجية الاقتحامية، وتتمثل في الخروج من الأماكن السكانية والقتال العسكري عن قرب وهذا من الطبيعي أن يؤدي الى هذه الخسائر".
ويرى في حديث لـ"النهار" أن "الحزب اختار هذا الأسلوب لتحييد المدنيين عن القتال، فهو كان في إمكانه اعتماد الطريقة الأسهل عبر الضرب من مسافات بعيدة والانسحاب، لكنه بذلك يعرّض المدنيين للخطر لأن إسرائيل ستردّ على مصدر إطلاق النار"، لافتاً الى أن "الحزب اعتمد استراتيجية الالتحام والقتال عن قرب لإحداث الأثر، وهو ما نجح فيه على الرغم من الخسائر".
ويضيف حطيط: "أما السبب الثاني فهو التفوّق الجوّي الإسرائيلي وامتلاك الإسرائيلي سيطرة جوّية محكمة عبر المسيّرات، والطائرات الحربية، وهو استعملها بطريقة فعالة جداً، بحيث إن معظم المقاتلين أصيبوا بضربات جوية، وهذا بتقديري يكون أثناء إخلائهم منطقة الاشتباك التي تكون قريبة جداً من المواقع العسكرية الاسرائيلية، كموقع العبّاد مثلاً الذي حصل اشتباك على جداره".
في المقابل، تبدو الخسائر الإسرائيلية مبهمة بفعل الرقابة العسكرية المرجَّحة. لكن ما يكشف عنه من إخلاء نحو 29 ألف مستوطن من الشمال يظهر استعداد إسرائيل لكلّ الاحتمالات، تماماً كما هو الأمر على الجبهة اللبنانية، بالرغم من القراءة التي ترجّح رسم قواعد اشتباك لها وظيفة ردعية، ضمن الصراع الكبير حتى الساعة.
ملصق متداول يظهر عدداً من مقاتلي "حزب الله" الذين قضوا في الجنوب في المواجهات مع إسرائيل.