يبدو أن ذكرى استشهاد الرئيس بشير الجميّل وشهداء المقاومة اللبنانيّة هذا العام لن تمرّ مرور الكرام، إذ من المحتمل أن تشهد الساحة المسيحيّة مصالحة كتائبيّة - قواتيّة، بعد خصومة "سياسيّة" دامت أكثر من ٤ سنوات، انطلقت شرارتها مع بداية "العهد البرتقاليّ" وموقف "القوات اللبنانيّة" في اتفاق "أوعا خيّك"، الذي عارضته "الكتائب" بشراسة تحت شعار "اللي بيجرّب مجرّب بيكون عقلو مخرّب".
لم تكن "القوات" تعرف أن وثيقة اتفاق "أوعا خيّك"، التي وقعت في العام 2015، ستُفقدها علاقة الأخوّة الوطيدة مع "الكتائب"، فالهدف الأساسيّ كان توحيد صفوف المسيحيين وقضيّتهم وإغلاق دفاتر الماضي على أمل "الإصلاح والتغيير"، إلّا أن الوعود الفضفاضة التي تباهى بها البعض قطعت خيط "الصلحة" بين الحزبين المارونيَّين، ليبدأ تراشق البيانات وتباين المواقف والتباعد الاستراتيجيّ، لا سيّما بعد ثورة 17 تشرين، حين لبس حزب "الكتائب" ثوب المجتمع المدنيّ معلناً الانقلاب على السلطة السياسيّة بمن فيها "القوات اللبنانيّة".
على أرض الواقع، وبعيداً من نقاط الالتقاء التي تتّفق عليها قيادتا الحزبين، ومنها ضرورة الدفاع عن سيادة لبنان وإبعاده عن الحضن الإيراني وإسقاط محاولة تغيير وجه لبنان الحاليّ، فإن كلّاً منهما يخشى الاقتراب من الآخر كما في الأيّام الخوالي، ويتوجّسان مما سُرّب من توصيف رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع للعلاقة البينيّة بأنّها تشبه علاقة "القنفذين اللذين إذا اقترب أحدهما من الآخر فسيجرحان نفسيهما بالشوك، وإذا تباعدا برَدا. والحلّ، بالنسبة إليه، الحفاظ على علاقة جيّدة، شرط أن يُبقيا على مسافة معيّنة بينهما كي لا يذوب أحدهما في الآخر".
سياسياً، هناك قناعة راسخة في صفوف "الكتائب" بأن اتفاق معراب "يشكّل تهديداً وجوديّاً للحزب"، لذا أصرّ رئيسه سامي الجميّل على التمسّك بخيار المعارضة القصوى، والالتفاف حول المجتمع المدني كطوق نجاة من النزاع السياسيّ القائم بين المنظومة الحاكمة، في الوقت الذي كانت فيه سفينة الأحزاب التقليدية تغرق أساساً، وتفقد ثقلها الشعبيّ رويداً رويداً.
لكن الأمر بالنسبة للحزب "الزيتيّ" كان مختلفاً، إذ أشارت مصادر قواتيّة لـ"النهار" إلى أن "الاتفاق الشهير الذي رأت فيه القيادة خلاصاً للمسيحيين لم يحقّق هدفه وفشل، من دون أن يعني ذلك أن هدفه ضرب العلاقات مع الكتائب أو زعزعتها، في الوقت الذي يتفق الحزبان على القضيّة نفسها، وهم أولاد المؤسّسة ذاتها، بالرغم من أن ثمّة سوء تفاهم سيُعالج الآن أو لاحقاً، ولا بدّ من أن تعود المياه لتتدفّق على خطّ معراب - بكفيا".
في سياق متّصل، يقول النائب ملحم رياشي في حديث لـ"النهار" إن العلاقة السياسية بين حزبي "الكتائب اللبنانية" و"القوات اللبنانية" يجري ترميمها بخطى ثابتة، وعلى نار خفيفة، وسيُعلن القرار النهائي للطرفين في الوقت المناسب عند اكتمال المشهد والتوصّل إلى حلول مشتركة تُرضي الطرفين.
وعلى صعيد شخصيّ وحزبيّ، يرى النائب المتنيّ أن "عودة العلاقات الكتائبيّة - القواتيّة أمرٌ لا بدّ منه لا بل أساسيّ"، معتبراً أن "تاريخ الحزبين وما يجمعهما منذ تأسيسهما أقوى من أيّ شيء، ويجب أن تكون العلاقات متينة ودائمة، لا موقتة ولا رهينة استحقاق معيّن".
"ما تجمعه لا يمكن أن يفرّقه إنسان"، بهذه الكلمات اختار رياشي وصف كواليس المفاوضات الكتابيّة - القواتيّة التي هي أشبه بإعادة توافق حزبيّ بينهما، وليست مصالحة بمعناها المتشعّب، لأن الحزبين لم ينقطعا عن بعضهما كليّاً، ولكنهما يختلفان على بعض النقاط؛ وهذا ما يتمّ التداول به خلال الاجتماعات التي تُعقد بينهما، مشدّداً على أنه "مهما كانت درجات الاختلاف بين الحزبين فلا يجب أن ترقى إلى مرحلة الخلاف، لا سيّما وسط وجود دماء شهداء كثيرة كأنطوان غانم وبشير الجميّل وغيرهم من الرفاق الذين سقطوا دفاعاً عن القضيّة الحقيقيّة للبنان وشعبه".
وتأكيداً على كواليس علاقات الحزبين، يؤكّد مصدر مطلع لـ"النهار" أن "التحضيرات والتنسيق للاستحقاقات المقبلة على طاولة الحزبين منذ أكثر من شهر، وفي طليعتها الملف الرئاسيّ وطرح اللامركزية والقوانين الإصلاحية"، كاشفاً عن أن "الحزبين يتطلّعان إلى إيصال رئيس حياديّ وقويّ يملأ كرسيّ بعبدا، ويُعيد ثقة المجتمع الدوليّ للبنان، ممّا يساعده على استعادة دوره في المنطقة أيضاً".
ويُضيف: "حتّى الساعة ما من قرار واضح حول شكل العلاقة بين الحزبين، إذ لا تزال المفاوضات سارية لتوضيح الأمور العالقة وإيجاد بوصلة طريق سياسيّة ترضي الطرفين، مع العلم بأن التواصل الكتائبيّ لا يتمّ فقط على خطّ معراب، إنّما على صعيد القوى التغييريّة أيضاً لتشكيل جبهة قويّة وسياديّة في البرلمان وخارجه قادرة على تطبيق مبادئ الحياد، وإنقاذ لبنان من ولاية الفقيه التي دمّرته وأوصلته إلى هذا الدّرك من الانهيار والعزل الإقليميّ والدوليّ".
ورداً على سؤال حول التوجّهات الحزبيّة حالياً، يُفيد المصدر بأن "أجواء الحوار إيجابيّة حتّى الساعة، ولا داعي للاستعجال في الأمر لأنه يجب دراسة أمور عدّة ومناقشة مواضيع عالقة قد تهدّد علاقة الحزبين مستقبلاً، وعليه سيُُبنى على الشيء مقتضاه".
كتائبياً، أعلن النائب سليم الصايغ لـ"النهار" أن "وفداً من الحزب يتشكّل منه ومن النائب نديم الجميّل سيحضر الأحد قداس الشهداء في معراب"، مشيراً إلى أن "علاقة الحزبين تاريخيّة، ولم تشهد يوماً خلافاً شخصياً، إنّما الاختلاف بينهما كان على الصعيد السياسيّ وحسب، وما يجمعهما من مبادئ وأهداف منذ البدء مروراً بـ14 آذار حتّى اللحظة هو الأهم".
كذلك شدّد على أن "المصالحة القواتيّة - الكتائبيّة مصطلح فضفاض لأنّه غير واقعيّ، لأن ما يُعدّ في المطبخ السياسيّ للحزبين يتناول الاستحقاقات المقبلة التي يتطلع إليها اللبنانيون بمختلف أطيافهم؛ لذا من الأصحّ القول إن علاقة الحزبين تشهد تحسّناً ووفاقاً سياسيّاً، لأنّها لم تُقطع من الأساس بشكل كلّي، ولكن في الوقت نفسه علّمتنا التجارب والمواقف السابقة أن نتريّث في الحوار، وأن نتّخذ القرارات، لأنّ الذهاب إلى السّلم أصعب بكثير من النزاع، وهذا يتطلّب جهداً ووعياً من الطرفين".
في وقت تتوجّه فيه الأنظار نحو معراب حيث سيُقام "قداس الشهداء" الأحد المقبل، تنشغل السّاحة الشعبيّة بالشكل الذي ستتّخذه علاقة "القوات" و"الكتائب"، وباحتمال التوصّل إلى اتفاق موقّع، يكون مماثلاً لـ"أوعا خيّك" الذي وقّع في العام 2015؛ فهل تتبلور مفاوضات الحزبين على شكل عقد تفاهم؟
"لا فائدة من الاتفاقيات المكتوبة إذا لم تقترن برغبة حقيقيّة في التنفيذ والالتزام بالوعود؛ والتاريخ السياسيّ في لبنان أكبر دليل على ذلك، إذ ثمة اتفاقيّات غير مكتوبة نُفّذت فيما أخرى سقطت لحظة توقيعها، لأن نيّة التغيير والإصلاح لم تكن موجودة أساساً، ونحن مسؤولون عن كلمتنا، وثابتون على مواقفنا حتّى النهاية؛ لذا لن يكون هناك أيّ اتفاق مكتوب بيننا وبين "القوات"، لأن كلمتنا هي الإمضاء الذي نلتزم به ونحاسب عليه وليس الحبر على الورق"، يقول الصايغ.
والسؤال الذي يشغل بال الساحة المسيحيّة اليوم هو إن كانت أحزاب "القوات اللبنانيّة"، و"الكتائب"، و"الوطنيين الأحرار"، ستعود إلى الوقوف جنباً إلى جنب لمواجهة مخطط بناء الدويلة، وإنقاذ ما تبقّى من لبنان، أم سنشهد سوياً جزءاً ثانياً من اتفاق "أوعا خيّك" مع موسم الاستحقاق الرئاسيّ الجديد؟