يرزح القطاع التعليمي في لبنان تحت ضغط وأزمات جمّة منذ العام 2019. أربع سنوات صعبة ذاق فيها المعلّمون والطلاب على حدّ سواء مرارة الإضرابات، وزيادة الأقساط بالدولار، وتراجع قيمة الرواتب، والتعليم "أونلاين" في زمن الحجر الصحي. سنة خامسة نشهدها اليوم، بدأت مترنّحة أيضاً مع تهديد بعدم التحاق الأساتذة في المدارس الرسمية بصفوفهم بسبب زُهد رواتبهم التي لم تعُد تتخطّى الـ100 دولار، وعدم التزام وزارة التربية بوعودها بالحوافز التعليمية حينذاك. وما لبثت أن تلقّت السنة الدراسية ضربة جديدة مع اندلاع الحرب في الجنوب في 8 تشرين الأول، وانقطاع مدارس قسراً عن التعليم، إضافة إلى إضراب مفاجئ أعلنته المدارس الكاثوليكية قُبيل الأعياد.
في حصاد العام 2023، نُجري عرضاً لواقع المدارس الرسمية والخاصة، والتحدّيات التي تواجه الطلاب والأساتذة مطلع السنة الجديدة، وسط سؤال عمّا إذا كانت السنة الدراسية الخامسة ستسير على ما يرام في الأشهر المقبلة، أم أنّ أخطاراً لا تزال تُهدّدها، ما سينعكس سلباً على مستوى التربية في لبنان؟
الواقع الاقتصاديّ ودولرة الأقساط
أحد أبرز التّحديات التي واجهت الطلاب وذويهم في بداية العام الدراسي هي دولرة الأقساط في عدد من المدارس الخاصة، فيما اتّجهت أخرى لدمج الأقساط بين الدولار والليرة اللبنانية، كلّ بحسب إمكانيات المدرسة وموقعها الجغرافي والمستوى التعليمي والتقديمات الخدماتية أيضاً.
لا مؤشّرات حتى الساعة بتوجّه المدارس الخاصة لزيادة الأقساط مطلع السنة، تماشياً مع وعود كان قد أطلقها عدد من مدراء مؤسسات كُبرى في لبنان، في حديث سابق مع "النهار"، بأنّ الزيادة ستكون رهن تقلُّب سعر صرف الدولار، أو أيّ طارئ اقتصادي، في وقت لا يزال الدولار مستقرّاً منذ أشهر عند عتبة الـ90 ألف ليرة.
وعلى صعيد تكلفة النقل، فقد شكّل هذا الملف عائقاً مضاعفاً لكلفة الأقساط. أمّا الطالب في المدارس الرسمية، فعانى أيضاً من تكلفة التنقّل في النقل العام أو الباصات الخاصة، فيما لم يكُن الأهل قد تكيّفوا بعد مع غلاء أسعار المحروقات. ولا ننسى غلاء أسعار الكتب والقرطاسية التي تُسعّر حصراً بالدولار.
الإضرابات في المدارس الرسميّة
عانت المدرسة الرسمية من إضرابات مطلبية امتدّت لأشهر بعدما أخلّت وزارة التربية بالتزامها بدفع بدل الإنتاجية للأساتذة شهريّاً، وتأخُّر المدفوعات، وقد تدرّجت هذه الإضرابات من جزئية إلى مفتوحة. وهذا ما خلّف فجوة في الناتج التعليمي وعدد الأيام التعليمية بين المدارس الرسمية والخاصة، والتي قدّمت سنة دراسية "شبه عادية" ما خلا بعض العطل القسرية خلال أزمة الهزّات الأرضية أو خلال العواصف في لبنان. أمّا التعليم في المدارس الرسمية العام الماضي، فلم تتعدَّ نسبته الـ50 في المئة.
هذه الإضرابات هدّدت أيضاً إمكانية إجراء الامتحانات الرسمية المتوسطة والثانوية العامة، بسبب الفاقد التعليميّ الكبير، فيما جهد الطلاب للتعويض مع الوقوع تحت ضغط كبير وتكثيف للموادّ، خلال وقت قصير، بعد عودتهم إلى المدارس مطلع آذار الماضي.
إلغاء شهادة "البريفيه"
تزامناً مع العودة المضّطربة للتعليم بُعيد الإضرابات، كان طلاب الشهادة المتوسطة أمام "صدمة" إلغاء "البريفيه" في اللحظات الأخيرة قُبيل موعد إجرائها، وذلك "بذريعة أمنية" مفاجئة تلطّت خلفها الحكومة، وخلّفت تخبّطاً في أروقة وزارة التربية التي "لم تكُن تعلم". ولقوننة هذا الإجراء، لجأت الوزارة إلى إصدار قرار بمنح التلامذة إفادات مدرسية.
تُفيد معلومات "النهار" بأنّ الامتحانات الرسمية المتوسّطة ستُلغى في دورتها لعام 2024 أيضاً، في إجراء ستّتجه الحكومة سنويّاً إلى إرسائه عُرفاً وصولاً إلى إلغائها رسميّاً بموجب قانون من مجلس النواب، متى تتوافر الظروف السياسية لذلك.
وإضافة إلى إلغاء "البريفيه"، لجأت الوزارة إلى تقليص المناهج العام الماضي، بسبب قلّة الأيام التعليمية في المدارس الرسمية، فبات تقييم التلميذ يجري وفق "اختبارات شكلية وبأقلَّ من 50 في المئة من المنهج"، بحسب تربويّين، مع وصفها بأنّها "ليست موضوعية".
شهر واحد فقط على انطلاقة سليمة للعام الدراسي 2023-2024 في كلّ لبنان، وسرعان ما تضرّرت مدراس بسبب الحرب في الجنوب. وقد لوحظ أنّ عدد المدارس والثانويات التي اضُطرّت إلى الإقفال قسرياً والانقطاع عن التعليم بات في تزايد، منذ 8 تشرين الأول الماضي إلى اليوم، وذلك مع اتّساع رقعة القصف الإسرائيلي إلى مناطق أكثر عُمقاً من القرى الحدودية.
خطّة الطوارئ التي أقرّتها وزارة التربية أتت متأخّرة لأسابيع بعد بدء النزوح، ولم تُطبَّق بشكل كامل حتى الآن، إذ إنّ عدداً من الطلاب النازحين من أقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا لم يتمكّن من الالتحاق بمدارس أخرى في مناطق نزوحه، وذلك لصعوبات مادية من جهة، وأخرى تتعلّق ببُعد المدرسة البديلة عن مكان سكنهم الجديد، وحتى بسبب القلق الأمني المتنقّل.
وإزاء هذا الواقع، لا يبدو التعليم متكافئاً بين المناطق اللبنانية، وهو ما قد ينسحب على مستوى الشهادة الرسمية الثانوية. ويتخوّف تربويّون من أنّ النتائج "لن تكون عادلة" إلّا في حال لجأت الوزارة إلى تخفيض مستوى الامتحانات الرسمية واعتماد الأسئلة الاختيارية، كالآلية التي اعتُمدت بُعيد جائحة كورونا في لبنان، ما سيُخلّف أيضاً خللاً في مستوى الشهادة الرسمية.
"الكاثوليكيّة" تُعلن الإضراب
فاجأت المدارس الكاثوليكية الدولة بإعلان إضراب مفتوح عشية عطلة الأعياد، رفضاً لقانون أقرّه مجلس النواب، في جلسته الأخيرة، والرامي إلى إعطاء مساعدة مالية لحساب صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة.
إلّا أنّه، وفي قرار مفاجئ أيضاً، أصدرت الأمانة العامة لمجلس الوزراء، مساء الثلثاء، بياناً أعلنت فيه أنّ الرئيس نجيب ميقاتي لم يُوقّع القانون، وذلك "ليتسنّى إعادة عرضه مجدّداً على أول جلسة لمجلس الوزراء للبحث في الخيارات الدستورية المُتاحة".
في حديث لـ"النهار"، يُفنّد الأمين العام للمدارس الكاثوليكية في لبنان، الأب يوسف نصر الأسباب التي دفعتهم لاتّخاذ قرار الإضراب، واصفاً "القانون بغير المتكافئ والعادل، ولا تنطبق عليه صفة العام، وهو غير مبني على أسس تشريعية وموجبة".
وتزامناً مع اجتماع تربوي عُقد في بكركي بحضور اتحاد المدارس الخاصة والوزير عباس الحلبي الأربعاء، يؤكد نصر أنّ "المطلوب سحب القانون المتسرّع للتراجع عن الإضراب، فعواقبه وخيمة على المعلمين والأهل والمؤسسات، ونحن غير قادرين على تحمّلها، ومن شأن المجلس النيابي تعليق العمل فيه عبر آلية معينة".
اجتماع بكركي حمل تبادلاً للآراء حول الحلول الممكنة للخروج من أزمة الإضراب، وسط تأكيد على ضرورة استئناف العام الدراسي بعد رأس السنة. كما أكد الحلبي أنّ اجتماعاً للجنة مستحدثة تضمّ عناصر الجسم التربوي كلّها ستعقد صباح الخميس، وقد "أُعطيَت مهلة حتى الثامن من كانون الثاني المقبل لاقتراح الآليات وسدّ الثغرات، وعندها تتقرّر الخطوات الآتية".
هل سنكون أمام سنة دراسيّة "طبيعيّة" في 2024؟
إلى اليوم، يرى مراقبون تربوّيون أنّنا لا نزال أمام "سنة دراسية طبيعية"، ضمن المناطق البعيدة عن الحرب وصولاً إلى الشمال، فيما يبقى الهاجس الأمني حاضراً من امتداد الحرب إلى بلدات أخرى، ما قد يؤدي إلى إقفال جزئي أكبر وصولاً إلى إقفال تام في حال الحرب الشاملة.
ومن الهواجس أيضاً، في حال انقطعت الوزارة عن دفع الحوافز للمعلمين ما يُعيد الأمور إلى الوراء مع إضرابات وعام دراسي مضطّرب كالسابق.
وبالرغم من الأزمات التي عصفت بالقطاع التعليمي منذ العام 2019، يعتبر المستوى التعليمي لطلاب العام الدراسي الحالي "أفضل" من السنوات الأربع السابقة، بعد تعافٍ تدريجي حقّقته المدارس الخاصة أوّلاً، ومعها الرسمية، وذلك بالانتقال من التعليم "الأونلاين" كليّاً، إلى التعليم ليومين حضوريّاً، ثم أربعة أيام في العام الماضي، وصولاً إلى تعليم حضوري كامل اليوم. فكلّما تراكمت السنوات الدراسية منذ كورونا إلى اليوم، كلّما استطاع الكادر التعليمي ترميم الأهداف التعليمية والمكتسبات الدراسية، ما يضع التلامذة على السكّة الصحيحة.
أمام هذا الواقع، لا يحتمل القطاع التربوي خسارة عام دراسي جديد، وسط أزمات متلاحقة أضرّت بالجسم الأكاديمي والطلاب معاً. تنصبّ الجهود الآن لترميم المؤسسات التعليمية في لبنان، والانطلاق بمسار تعليمي مستقرّ وآمن مطلع السنة الجديدة، وإرساء حدّ من التفاهم بين الوزارة والمعلمين ولجان الأهل، تُتيح المجال أمام تفادي اهتزاز المستوى التعليمي في لبنان مجدّداً.