تقترب ولاية رئيس الجمهورية ميشال #عون من نهايتها، ولا حلول ملموسة، إن لناحية الاتفاق على شخصيّة رئاسيّة يتمّ انتخابها في الموعد الدستوري، وإن من ناحية تشكيل حكومة جديدة تتولّى صلاحيات الرئيس وتُدير فراغاً مقبلاً.
وهذه المرة، طعم الفراغ مختلف بوجود حكومة مستقيلة، وهو أمر لم يُشِر إليه المشترع بشكل واضح بمادّة قانونية محدّدة، ممّا يفتح باب الاجتهادات في القانون، وفي السياسة، حول مَن يُدير هذا الفراغ.
وفي خضم الفتاوى الدستورية المؤيّدة والمعارِضة لتولّي حكومة مستقيلة صلاحيات الرئيس، وتحديداً تصريحات النائب جبران باسيل، وأخرى عن الاعتراف بالحكومة أو عدمه، عاد التهديد بتجميد وزراء عملَهم، أو اعتكاف وزراء عن تصريف الأعمال، أو بالحدّ الأقصى القيام بواجباتهم في حال اجتماع الحكومة لظروف طارئة، علماً بأنّ من هؤلاء الوزراء مَن هم محسوبون على رئيس الجمهورية، وهذا يعني أن ثلث الحكومة سيعتكف، وبالتالي استحالة اجتماع مجلس الوزراء.
والسؤال الذي يُطرح، هل يستطيع الوزير المستقيل أن يستقيل، أو أن يعتكف، وهل هناك ما يسمّى الاستقالة من الاستقالة، وماذا يقول الدستور في هذا الصدد؟.
بدعة الاعتكاف ليست جديدة في لبنان، فقد هدّد الرئيس حسان دياب باللجوء إلى الاعتكاف بعد فشل الرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومة، وكان دياب وقتها رئيساً لحكومة تصريف أعمال. ومارس الرئيس الشهيد رفيق الحريري الاعتكاف لأسبوع في أيار من العام 1994. وقبله، كان اعتكاف الرئيس الراحل رشيد كرامي اعتكافاً طويلاً من نيسان إلى تشرين الثاني من العام 1969.
دستورياً، لا وجود لمنطق الاعتكاف، لا في حالة رئيس الوزراء، ولا الرئيس المكلّف، ولا رئيس حكومة تصريف أعمال ووزرائه، بل الاعتكاف يُشكل انتهاكاً للدستور، ويستدعي استخدام المادة 70، وتَدَخُّل مجلس النواب عفواً، وتوجيه اتهام إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال والوزراء بالإخلال بالواجبات المترتبة عليهم في المادة 64 من الدستور، التي تنص على أن الحكومة لا تمارس صلاحياتها بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال. وبالتالي، يكون الاعتكاف نوعاً من التعسف في عدم استعمال السلطة، ولو بحدودها الدنيا. وهذا حدث مع القضاة بعد إعلان إضرابهم حين أعلنوا أنّهم أُكرهوا على ذلك، مقرّين بارتكاب مخالفة جسيمة.
وفي هذا الإطار، يقول الخبير الدستوري ونقيب المحامين السابق رمزي جريج إن "اعتكاف وزير أو عدة وزراء قد يُؤخَذُ في الظروف العادية، على أنه موقفٌ سياسيٌّ يمكن معالجته بالسياسة عبر الوصول إلى تفاهمٍ ما معه أو معهم، وإلا فبالدستور عبر الإقالة أو الاستقالة أو طرح الثقة. أما في الظروف الاستثنائية الناجمة عن خلوّ موقع الرئاسة الأولى، فالحلول الدستورية تلك تصبح متعذرةً، ولا يبقى سوى الحلّ السياسي، وتكون ترجمتُه العمليّة استرضاءُ المعتكفين باستجابة مطالبهم لكي يعودوا عن اعتكافهم إذا قبلوا، وهذا ليس فيه سوى انصياع أكثرية الوزراء للأقلية، خلافاً لمبادئ الديموقراطية".
ويرى أن الدستور في أحد تعريفاته هو مجموعة المبادئ الأساسية التي تنظم عمل سلطات الدولة. هو موجود إذن لانتظام العمل لا للتعطيل، وإذا كان المشرّع نصَّ أحكاماً تعالجُ الظروف الطارئة، التي تعرقل عمل بعض السلطات، كخلوّ سدة الرئاسة مثلاً، فإنه لم يتضمّن ما يعالجُ الظروف الشاذة التي تتمثل باجتماعِ عدّة عوامل: الفراغ الرئاسي، وعدم تشكيل حكومة جديدة، واعتكاف بعض الوزراء، وتأخر المجلس النيابي عن انتخاب رئيس جديد. فاجتماع هذه العوامل في وقت واحد لا يمكن أن يعبرَ في ذهنِ أيّ مشترع، لأنه، في بعده الحقيقي، نتيجة إرادة مباشرة صادرة عن أطرافٍ في السلطة، لا نتيجة ظروف موضوعية، وهذا ما لا يتوقعُه ولا يعالجُه أيّ دستور في العالم.
ويضيف: "من هنا، لا تصحّ استقالة وزير من حكومة مستقيلة، فاستقالتُها تعني استقالة جميع أعضائها، فكيف لمستقيل أن يستقيل ثانية؟ كذلك لا يعود الاعتكاف في مثل هذه الظروف الشاذة خياراً لأيّ وزير، ولا تعبيراً عن موقف سياسي، بل هو أولاً وأخيراً مرتبطٌ بالمسؤولية الوطنية المصيرية، وبالتالي يمكن القول إن الوزراء المعتكفين يخالفون بموقفهم هذا واجباتهم الوظيفية، وتجوز محاكمتهم أمام المجلس الأعلى المختصّ بمحاكمة الرؤساء والوزراء وفقاً للمادة 70 من الدستور، مع العلم بأنه احتمالٌ صعب التنفيذ بسبب الأصول التي ترعى الإحالة على هذا المجلس".
يُذكر أن حادثة حصلت في هذا الاطار عندما أعلن وزير الداخلية الأسبق زياد بارود بتاريخ 26 أيار2011 استقالته من حكومة مستقيلة، وهي خطوة كانت بمثابة الإعلان عن توقفه عن تصريف الأعمال. وهنا يقول بارود لـ"النهار" إن الاستقالة حقّ دستوريّ لكلّ وزير، ولو كانت الحكومة مستقيلة. لا أحد يستطيع أن يربط الوزير بمبدأ حكومة تصريف الأعمال.
ويعتبر بارود أنّه بحسب الدستور، القاعدة هي الحرية والاستثناء هو التقييد. فالحكومة المستقيلة تستمرّ قائمة ولا تختفي ولا تنعدم من الوجود، وتصبح حكومة تصريف أعمال؛ والمادة 64 من الدستور تقول إن "الحكومة المستقيلة أو التي بحكم المستقيلة تمارس صلاحياتها بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال"، وهذا يعني أنها تستمرّ قائمة، ويعني أيضاً أن حق كلّ وزير بالاستقالة يبقى قائماً، لأنّ لا نصّ يخالف هذا المبدأ في الدستور من جهة، والاستقالة حقّ دستوريّ من جهة أخرى؛ وبالتالي، لا تمييز بين حكومة قائمة بكلّ صلاحياتها وحكومة تصريف أعمال".
ويذكّر بارود بالجلسة الاستثنائية التي دعا إليها الرئيس نجيب #ميقاتي في العام 2013، والتي تمّ خلالها تعيين رئيس وأعضاء هيئة الإشراف على الانتخابات، سائلاً: "ماذا لو استدعى أمر طارئ الرئيس ميقاتي إلى طلب عقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء، وقرر أحد الوزراء عدم تلبية الدعوة أو الاعتكاف مثلاً، فماذا يمكنهم أن يفعلوا معه؟".
من هنا، يرى بارود أن لكلّ وزير الحقّ في الاستقالة من حكومة تصريف الأعمال. لكن مفعول هذه الاستقالة هو الذي يُحدث فرقاً، ويكون على مستوى انعقاد مجلس الوزراء لجهة النصاب والتصويت، علماً بأن لا شيء يمنع مجلس الوزراء من الانعقاد في ظلّ حكومة تصريف أعمال ضمن صلاحيات محصورة جداً، وأحياناً ببند وحيد. فالتأثير إذن على النصاب أو التصويت.
وفي المحصلة يبقى في لبنان كلّ شيء مباحاً وقابلاً للاجتهاد القانوني والسياسي، والجميع يسعى إلى تطويع القانون خدمة للسياسة وللمصالح الضيّقة. ولكن في المراحل المصيرية في العادة تكون السياسة في خدمة الشعوب، وليس العكس؛ فكيف إذا كان الأمر في بلد يشهد انهيارات متتالية، ويكون التخلّي عن مسؤولية تسيير شؤون الناس بمثابة جريمة وطنية تأتي فوق أيّ اختلاف او مصالح سياسية، وتصبح مساساً مباشراً بحياة شعب؟