تحتدم الأزمة السياسية مع الطروحات والاجتهادات التي يلقيها عشوائياً مستشارو العهد و"التيار الوطني الحرّ"، في ما يتعلّق بتشكيل حكومة جديدة في لبنان. طلائع هذه الطروحات، الحديث عن حكومة بديلة والتلويح بحكومة عسكرية.
في المصطلح الدستوري لا يوجد ما يسمّى "حكومة عسكرية" لأن هذه الحكومة عادة ما تنتج عن انقلاب عسكري، إنما تكون حكومة مؤلفة من العسكريين أي من المجلس العسكري أو من خارجه. في لبنان، لم يكن للحكومات المؤلفة من العسكريين أيّ تأثير، ولا شكلت يوماً بديل حلّ لأيّ أزمة سياسية أو أمنية، لا بل من الضروري الإقرار أنّ مثل هذه الحكومة في العام 1988 مع العماد ميشال عون، أخذ البلاد نحو الفوضى والدمار.
في العام 1952، عندما أيقن الرئيس بشارة الخوري أن لا مفرّ من استقالته، طلب من قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب أن يكون رئيساً لحكومة انتقالية وصدر المرسوم الرقم 9442 تاريخ 18 أيلول 1952 بتعيين حكومة ثلاثية مؤلفة من:
- قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب (ماروني) رئيساً للوزارة، ووزيراً للدفاع الوطني وللداخلية.
- ناظم عكاري (سني) نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للخارجية وللأشغال العامة، والتربية الوطنية، والبريد والبرق، والأنباء، والزراعة والصحة.
- باسيل طراد (روم أرثوذكس) وزيراً للاقتصاد الوطني والشؤون الاجتماعية والعدلية والمالية.
وفي اليوم ذاته قدّم الرئيس بشارة الخوري استقالته إلى مجلس النواب. وعند انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية، لم يتأخر فؤاد شهاب عن تقديم استقالة حكومته إلى الرئيس شمعون.
في العام 1975، وعلى إثر تصاعد أعمال العنف واستقالة حكومة الرئيس رشيد الصلح، عمد رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية بعد محاولات فاشلة لتشكيل حكومة، الى تشكيل حكومة عسكرية.
وقد تشكلت على النحو الآتي:
- العميد أول المتقاعد نور الدين عبدالله الرفاعي (سني)، رئيساً لمجلس الوزراء وزيراً للعدل، الصحة العامة، الصناعة والنفط.
- مساعد رئيس الأركان العميد الركن موسى جرجس كنعان (روم أرثوذكس)، نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للإعلام، وللتربية الوطنية والفنون الجميلة.
- قائد الجيش العماد اسكندر أسعد غانم (ماروني)، وزيراً للدفاع الوطني، وللموارد المائية والكهربائية.
- رئيس الأركان العماد سعيد حسن نصرالله (درزي)، وزيراً للداخلية وللإسكان والتعاونيات.
- العميد الركن فوزي ابراهيم الخطيب (سني)، وزيراً للاقتصاد والتجارة وللتصميم العام.
- العميد الركن فرانسوا باسيل جنادري (روم كاثوليك)، وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية، وللبريد والبرق والهاتف.
- العميد الركن زين الدين اسماعيل مكي (شيعي)، وزيراً للأشغال العامة والنقل، والزراعة.
- لوسيان منير دحداح (ماروني)، وهو المدني الوحيد في الحكومة، وزيراً للخارجية والمغتربين وللآثار والسياحة.
هذه الحكومة لم تعش طويلًا، جوبهت برفض سياسي عارم من كتل وتيارات سياسية مختلفة لاسيّما من الرئيس صائب سلام ورشيد كرامي والعميد ريمون إدّه وكمال جنبلاط، فيما لاقت ترحيباً من كل من الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل. لم تحدث الصدمة المطلوبة لذلك أقدمت على الاستقالة في 26 أيار أي بعد 3 أيام على تشكيلها وهي لم تمثل حتى أمام المجلس النيابي أو تقدّم بياناً وزارياً، وبقيت تصرّف الأعمال حتى تشكيل حكومة جديدة في الأول من تموز 1975 برئاسة رشيد كرامي.
في العام 1988، وفي الربع الساعة الأخير من ليل 22-23 أيلول 1988 صدر المرسومان الأخيران في ولاية الرئيس أمين الجميل. المرسوم رقم 5387 بتعيين العماد ميشال عون قائد الجيش رئيساً لمجلس الوزراء. والمرسوم رقم 5388 تشكيل الحكومة، ومؤلفة من المجلس العسكري في الجيش اللبناني على النحو الأتي:
- العماد ميشال نعيم عون (ماروني)، رئيساً لمجلس الوزراء وزيراً للدفاع الوطني وللإعلام.
- العقيد عصام نقولا أبو جمرا (روم أرثوذكس) نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية وللإسكان والتعاونيات وللاقتصاد والتجارة.
- العميد إدغار فؤاد معلوف (روم كاثوليك) وزيراً للمالية وللصناعة والنفط.
- اللواء محمود فؤاد طي أبو ضرغم (درزي) وزيراً للأشغال العامة والنقل والسياحة والعمل.
- العميد نبيل محمد أمين قريطم (سني)، وزيراً للخارجية والتربية الوطنية والفنون الجميلة وللداخلية.
- العقيد لطفي حيدر جابر (شيعي) وزيراً للموارد المائية والكهربائية وللزراعة والعدل.
لكنّ الوزراء المسلمين (أبو ضرغم، قريطم، وجابر) أعلنوا استقالاتهم من الحكومة فور صدور المراسيم. وفي 24 أيلول تكرّس الانقسام الحكومي: حكومة الرئيس سليم الحص في السرايا وحكومة عون في قصر بعبدا. واستمرّ هذا الوضع قائماً حتى انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية في 24 تشرين الثاني 1989.
قبل الطائف وبعده
قبل إقرار اتفاق الطائف في العام 1990 كان يخضع تعيين رئيس الحكومة لإرادة رئيس الجمهورية فيختاره ويعيّنه. إذ نصّت المادة 53 من الدستور على أن "رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويسمّي منهم رئيساً ويقيلهم".
بعد الطائف اختلف الوضع جذرياً، وأصبح تكليف إحدى الشخصيات السنيّة تشكيل الحكومة يخضع لاستشارات نيابية ملزمة، بإجرائها وبنتائجها، يجريها رئيس الجمهورية ويطلع رئيس مجلس النواب عليها، فيتم التكليف ومن ثم التأليف، وبالتالي أصبح اختيار رئيس الحكومة يتم بشبه انتخاب وليس بقرار ورغبة رئيس الجمهورية، وبات من الصعب تشكيل أيّ حكومة، عسكرية كانت أم غير عسكرية بالمعنى المتداول، إلّا في حال موافقة أكثرية النواب على ذلك عبر الاستشارات الملزمة.
رأي القانون والعسكر
الاستاذ في القانون العام والدولي الدكتور انطوان صفير يؤكد لـ"النهار" أنّ تعيين حكومة من أيّ لون، أكانت من العسكريين أو من غير العسكريين يجب أن يمرّ بالأصول الدستورية المحددة في الدستور اللبناني، التي تبدأ بإجراء استشارات نيابية ملزمة والتكليف ومن ثم التأليف، وهو خلاف لما كان عليه الوضع قبل الطائف، حيث كانت السلطة التنفيذية سابقاً منوطة برئيس الجمهورية فقط، يعاونه وزراء يختار من بينهم رئيساً للوزارة، فيما اليوم السلطة الإجرائية هي في مجلس الوزراء وبالتالي لا يمكن لرئيس الجمهورية تعيين حكومة من دون المرور بالأصول المعتمدة في الدستور خصوصاً أن هناك رئيساً مكلّفاً جاء على أثر استشارات نيابية ملزمة نُظمت بعد اعتبار الحكومة مستقيلة إثر انطلاق المجلس النيابي الجديد".
ويجزم صفير بأن "لا شيء في الدستور يشير إلى إمكانية تعيين أيّ سلطة بديلة بوجود الرئيس المكلّف، وكل ما عدا ذلك هو اجتهادات. التكليف المعطى لرئيس الحكومة لا يمكن ان يُنزع إلّا بقرار منه شخصياً. ولا قدرة لا لرئيس الجمهورية ولا لمجلس النواب على سحب التكليف، لأنّ المواد الدستورية لم تحدّد الأصول الواجب اعتمادها في هذا الإطار".
وفيما لا يستطيع رئيس الجمهورية كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس مجلس الدفاع الأعلى، ان يعيّن حكومة بديلة عن تلك الموجودة حالياً، يتخوّف كثيرون من احتمال حدوث توترات أمنية في الفترة الفاصلة عن 31 تشرين الأول، وبالتالي، استغلال هذه الفوضى الأمنية لإعلان فرض حالة الطوارئ وتعليق العمل بالدستور، وبالتالي فرض منظومة بعبدا حكومة مؤلفة من العسكريين بموازاة حكومة الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي. إلاّ أنّ صفير قلّل من إمكانية حصول هذا السيناريو، لأنّه غير متاح لا دستورياً ولا سياسياً.
إذ أنّه بحسب الخبير العسكري العميد الركن نزار عبد القادر، أيّ إعلان لحالة طوارئ في البلد يتطلب قرارًا من مجلس الوزراء، واجتماع الوزارة، وهذا يعني لا قدرة امام رئيس الجمهورية للنفاذ من هذا الباب لاسقاط تكليف ميقاتي والاعلان عن أيّ حكومة من العسكريين أو حكومة بديلة.
وانطلاقاً من أنّ أيّ حكومة تتطلب موافقة مجلس النواب مجدداً عبر الاستشارات الملزمة، يستبعد عبد القادر ان يعمد النواب الجدد إلى الموافقة على حكومة عسكرية. ويعتبر ان "فريق القصر" يقيس أمنياته على ما حصل في نهاية عهد الرئيس امين الجميل. لكنه ذكّر بأنّ الدستور آنذاك لم يكن دستور الطائف، ومجلس النواب لم تكن لديه الوظيفة الموجودة حالياً، والدستور لم يكن ينصّ على ضوابط تتعلق بتشكيل الحكومات وتكليف رئيس حكومة.
وفي الإطار، يرى عبد القادر في حديثه لـ"النهار" أنّ هناك من يريد أن يسيطر على الحكومة المقبلة، منبّها من وجود فخّ لاتفاق الطائف وللجمهورية عبر إدخال البلد في فراغ طويل، لفرض معادلة "ما هو مستحيل الآن يصبح متاحًا بحكم الواقع غدا"، تماماً كما حصل عند انتخاب العماد ميشال عون، وهذا ما يسعى إليه جبران باسيل من خلال هذه المناورات. فإذا كانت الظروف اليوم تمنعه من تقديم نفسه مرشحاً رئاسياً، فإنّ تبدّل هذه الظروف قد يطرح فتوى للوصول إلى حلّ او مخرج عبر القبول به رئيساً للجمهورية".
رفيق درب الرئيس ميشال عون، الجنرال عصام أبو جمرا، وهو أحد وزراء الحكومة العسكرية التي تشكلت في العام 1988، والذي اعتبر انّ عون لا يعرف إلّا شنّ الحروب، يؤيّد وجود حكومة مؤلفة من عسكريين لتفادي الانقسامات الحزبية وكي لا تكون في محور سياسي ضدّ آخر، بمعنى تكون حيادية بين القوى السياسية. فحسب أبو جمرا، العسكري ولو امتلك ميولًا سياسية لكنه لا يجاهر بها ويعمل وفق المصلحة الوطنية".
بموازاة هذه القراءات، لا مجال بالنسبة للجيش اللبناني الدخول في متاهات السياسة والسياسيين وتجاذباتهم، وقيادته على يقين أنّ الطلب منها تسلّم مقدرات البلد سياسياً تحت أي ظرف لن يكون مجالًا للحل إنّما قد يؤسّس لانقسام جديد وأوسع، على ضوء التوازنات الموجودة طائفياً وحزبياً وسياسياً، والتي قد تنعكس سلباً على المؤسسة العسكرية، وتجربة أحمد الخطيب لا تزال ماثلة أمامها وأمام كلّ اللبنانيين. من هنا، تؤكّد مصادر عسكرية أن همّ الجيش ضباطه وعناصره أولًا، وكيفية تأمين مقوّمات استمرارهم وصمودهم في الضائقة المعيشية، بموازاة، القدرة على تأمين الاستقرار والحفاظ على الأمن ومواجهة كلّ مخططات استهداف الداخل بدقة وفعالية وتماسك.
هذا الواقع، لا يتيح أمام المنظومة الحاكمة، وتحديداً أمام منظومة بعبدا - ميرنا الشالوحي خيارات عدّة كما يشيعون. فما كُتب بعد الطائف غير ما قبله، وأيّ إجراء مخالف لقواعد وأحكام الدستور والقانون هو خرق لهذا الدستور ويحتّم محاكمة من الدرجة الأولى.