خيرًا فعل كلّ من "القوات" والكتائب بإصدار بيانات تطوّق ما يجري على الأرض في بعض المناطق، بعد ما انفلتت الأمور خلال اليومين الماضيين.
أظهرت حادثة الخطف الأخيرة بغضّ النظر عن خلفياتها أأمنيّة كانت أم سياسية أو جنائية مدى الاحتقان الموجود في الشارع المسيحي، وأنّ ردّات الفعل التي صدرت في وقت قصير هي بالتأكيد أبعد من الحادثة التي جرت، إنّما هي امتداد لـ 6 أشهر سبقت اندلاع الواقعة بين "حزب الله" وإسرائيل في الجنوب.
على الرغم من جميع البيانات التي صدرت منذ الإعلان عن الخطف بدا واضحًا أنّ هناك أرضية تحرّكت خارج الإطار المضبوط من الأحزاب والقوى التي تعمل على الأرض بخلفيات مفهومة أحيانًا وغير مفهومة أحيانًا أخرى.
أصبح من الواضح أنّ هذا الشارع ضاق ذرعًا من فائض القوة التي يمارسها محور الممانعة عليه، وما يرافقها من اتهام بالعمالة وهجوم على زعمائه وتهديدهم والتعامل معهم على أنهم فئة مهمّشة وهامشية، مع ما تحمله هذه الطريقة من مساس "سوسيولوجيّ" ثقافي وسياسي على هذه الفئة بالذات، في مقابل تعاطٍ غير مسؤول من القيادات السياسية والرسمية، التي استمرت بالعمل بسطحية كبيرة مقدمة الكسب السياسي الموقت على المعالجة العميقة الحقيقية للمشكلة، بالإضافة إلى الاستمرار بالهروب إلى الأمام من أيّ إشكالية.
وفي سرد صغير لأحداث اليومين الماضيين، تجاوز "حزب الله" نظرية ألّا "كلام في الداخل في ظلّ الحرب" وعاد أمينه العام السيد حسن نصرالله ليذكّر بخطاب الطيّونة الذي أكّد أنّه يصحّ في هذا الوقت، والذي تحدّث فيه عن مئة ألف مقاتل، تحت شعار الردع أو الضبط أو التنبيه من حرب من أهلية، ليقابله حشد جماهري على مدى 3 أيام من الفريق المقابل، فأرجئ دفنُ الضحية لأربعة أيّام لإعداد العدّة الكاملة. واستعراض القوة المقابلة يُذكّر بمشاهد الحشد والحشد المقابل في نيسان السبعينات المشؤوم.
هذا على مستوى القيادات السياسية التي تبرّر أحقيتها في الاستغلال السياسيّ لأيّ حادثة ضمن إطار التنافس السياسي في ما بينها، ولو كانت دموية في بعض الأحيان، وبالعودة قليلاً إلى الخلف يمكننا قراءة هذا المشهد من الطيّونة وغيرها.
أمّا على المستوى الرسميّ فكان الأداء كارثيًا، بدءًا من تنافس الأجهزة الأمنية وتقديم روايات متناقضة وتسريبها قبل اتّضاح معالم الجريمة، وحتى بعدها إلى بيانات غير مقنعة، إلى بيانات رئيس الحكومة المتناقضة والمصحّحة لاحقًا، إلى تصريحات بعض الوزراء الذين تحدّثوا عن أرقام مسلّحين في المخيمات السورية في ذروة الاحتقان، أو عدد الموقوفين السوريين في السجون، فبدا وكأنّهم يريدون نقل الأمر من قضية اقتتال داخليّ إلى إشكال مع السوريين، وبما أنّ الأرض جاهزة والاحتقان فيها على أشدّه في هذا الملفّ، كاد أن يقع المحظور في عدد من المناطق.
شماعة اللاجئين
يعود ملفّ اللاجئين المتفجّر إلى الواجهة بعد كلّ حدث في البلاد. في القريب حُمّلوا مسؤولية الخيانة في الجنوب وأنّهم عملاء يعطون العدوّ إحداثيات، فتعرّضوا لحملة قاسية لم توفّر أحدًا منهم، وقبلها اختلف أحد الشبان في قضاء بشرّي مع عامل لديه، فكانت ردّة فعل على النازحين في أغلبية المناطق. وفي الأمس القريب أيضًا كانوا "فشّة خلق" الاحتقان السياسيّ في البلد، ولا نسمع بعد كلّ حدث سوى خطابات وقصائد بضرورة الحلّ تبقى رنّانة ليومين أو ثلاثة ويعود الجميع إلى قواعدهم سالمين.
عشرات ومئات الخطط والدراسات والمواد الإعلامية والدعائية وأموال طائلة لم تقدّم حلّاً أو بداية حلّ أو خطوات سياسية جدّية لهؤلاء تقي السوري ردّات الفعل وتحمّل المسؤوليات، وتقي اللبناني من حمل التبعات الكارثية لهذا اللجوء، مع دراسة جدية لحاجة لبنان إلى اليد العاملة السورية والمساعدة في اقتصاده لأنّ القرارات العشوائية هي أيضًا مدمّرة وكارثية على قطاعات كثيرة أهمها القطاع الزراعي، وقد بدأ المزارعون بالفعل بالصراخ بعد حملة اليومين الماضيين خوفًا من التعرّض للعمال على أبواب المواسم الزراعية وبداية الصيف.
في المحصّلة، احتاج الأمر إلى يومين للعودة إلى لغة العقل والهدوء، لتكون هذه البيانات التي صدرت اليوم في ما يتعلّق بالاعتداء على السوريين أوّل الغيث، من دون استبعاد تدخل أوروبيّ بالنسبة إلى هذا الملفّ الحسّاس، ويلقى آذاناً صاغية عند القوات والكتائب، بالإضافة إلى دور كبير لبكركي وللكنيسة المارونية التي هدّأت من روع الرؤوس الحامية، وعملت وتعمل إلى الوقت الحاضر لتحويل ما جرى إلى نقطة انطلاق نحو تفاهم وطنيّ بعدما أخذ خطاب الانفصال مجده في الأيام السابقة، بالإضافة إلى محاولة الاستفادة من التقارب المسيحيّ- المسيحيّ الذي بدأ في الأزمة الأخيرة توجيهه إلى موقف وطنيّ، خصوصًا بعد الوصول إلى قناعة راسخة وأكيدة ألّا حماية للمسيحيين إلاّ بالدولة، وتقديم مبادرة يجتمع حولها أكبر قدر ممكن من القوى السياسية والاجتماعية والطائفية، تنطلق هذه القوى منها نحو العالم وقواه طلبًا لتوفير الاستقرار، والأهمّ ملاقاتها من القوى الأخرى عبر فهم وتفهّم هواجس هذه الفئة والتعاطي معها بما يبدّد خوفها، وإلى ذلك الحين "الله يرحم باسكال".