عاد ملفّ العلاقات بين ألمانيا و"حزب الله" إلى الواجهة في الأيّام القليلة السابقة بعد عدد من التقارير عن زيارات قام بها مسؤولون ألمان إلى "الحزب"، قابلها تحريك ألمانيّ قضائيّ لملفّ "الحزب" داخل ألمانيا.
علاقة ألمانيا و"الحزب" طويلة، ودائماً كانت الأولى وسيطة بينه وبين إسرائيل، ونجح الوسطاء الألمان في إبرام صفقات بين "الحزب" وإسرائيل أدّت نتائجها إلى الإفراج المتبادل عن أسرى وجثامين بين الطرفين.
ففي العام 2004 نجح الوسيط الألمانيّ أرنسيت أورلاو وفريق عمله في تحقيق أكبر صفقات التبادل بين "حزب الله" وإسرائيل، حيث شملت الصفقة 23 لبنانيّاً، و5 سوريّين، وأسيراً ليبيّاً، و3 مغاربة، و3 سودانيّين، و400 فلسطينيّ، وأسيراً ألمانيّاً مسلماً، ورفات 59 مقاوماً لبنانيّاً. وتسلّمت إسرائيل من "حزب الله" ضابط المخابرات الحنان تننباوم، وجثث 3 جنود (عدي أفيطان وعمر سواعد وبيني أفراهام)، كانوا قد قُتلوا أثناء أسرهم عام 2000، وشملت هذه الصفقة أسماء تُعتبر بمثابة رموز لـ"حزب الله" أو لجبهة المقاومة كمصطفى الديرانيّ والشيخ عبد الكريم عبيد.
وفي عام 2008 نجح وكيل الاستخبارات الألمانيّة BND غيرهارد من هندسة صفقة بين "حزب الله" وإسرائيل أدّت إلى إطلاق أسيرين لدى "حزب الله" وجثث جنديّين إسرائيليّين آخرين، (العملية التي أدّت إلى اشتعال حرب تموز)، مقابل الإفراج عن 4 أسرى لبنانيّين على رأسهم عميد الأسرى سمير قنطار، وتسليم رفات 200 فلسطينيّ ولبنانيّ.
وعلى الرغم من العلاقة الوثيقة بين ألمانيا وجهاز استخباراتها والموساد الإسرائيليّ حافظت المخابرات الألمانيّة على العلاقة مع "حزب الله" وكسب ثقته، إلّا أنّ العام 2021 كان مفصليّاً في هذه العلاقة عندما صنّفت ألمانيا "حزب الله" بذراعيه العسكريّ والمدنيّ كمنظّمة إرهابيّة ولعبت الضغوط البرلمانيّة دوراً أساساً في التغيّرحيال "حزب الله" اللبنانيّ، ولطالما أبدت الطبقات السياسيّة في برلين غضبها حيال التعاطي الأوروبيّ مع "الحزب" الذي شكّل ذراع إيران العسكريّة الضاربة في المنطقة.
وقضت المحكمة العليا في ألمانيا بأنّ "حزب الله" كان منظّمة عطّلت السلام العالميّ، ودعا البرلمان الألمانيّ الحكومة في كانون الأوّل 2019 إلى إعلان "حزب الله" بأكمله منظّمة إرهابيّة، لكنّ الحكومة رفضت الاقتراح في ذلك الوقت. وفي نيسان 2020 حظّرت السلطات الألمانيّة أنشطة "حزب الله"، كي تستطيع مصادرة أصول "الحزب"، كما لم يعد مسموحاً إظهار رموز وشعارات تخصّ "حزب الله".
وأوضحت الحكومة الألمانيّة أنّ مرسوم الحظرالمفروض على أنشطة "حزب الله" في البلاد، لم يُسفرعن عواقب سياسيّة تنمويّة أو خارجيّة أو أمنيّة تمسّ العلاقات مع لبنان، وينقل المركز الأوروبيّ لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات عن الباحث البارز في مشروع مكافحة التطرّف (CEP) ومقرّه واشنطن جوش ليبوسكي في 6 أيّار 2020، أنّ "تصنيفَ ألمانيا اعترافٌ بالطبيعة الوحدويّة لـ"حزب الله"، وليست له أجنحة عسكريّة أو سياسيّة منفصلة كما أعلن الاتّحاد الأوروبيّ في تصنيفه لعام 2013.
وبحسب المركز تراجع التعاطف مع "الحزب" إلى حدّ ما منذ قرار وزير الداخليّة الألمانيّ "هورست زيهوفر" بحظر أنشطتها، إلّا أنّ السلطات الأمنيّة لم تلاحظ أيّ انسحاب ناشطين من بعض الجمعيّات، ولا يزال أنصار "حزب الله" يواصلون التماسك التنظيميّ والأيديولوجيّ، وأنّهم لا يتشابكون في بنية موحّدة على مستوى ألمانيا، بل يقصدون نقاط تلاقٍ إقليميّة معزولة، على الأرجح.
وفي رأي المركز، تركيبة "حزب الله" في ألمانيا تتّسم بعدم الوضوح، فلا تنظيمَ هرميّاً أو حزبيّاً لـ"الحزب، وهو يعتمد على واجهات ينشط من خلالها. ولا تقتصر أنشطته في ألمانيا فقط على جمع التبرّعات ونشر الدعايات الحزبيّة، بل تمتدّ إلى غسيل وتبييض الأموال وتجارة المخدّرات عبر وكلاء ووسطاء يعملون بشكل أساسيّ في قطاعات عدّة كتجارة السيّارات والحليّ.
ولا تفرض ألمانيا، على عكس العديد من دول أوروبا، أيّ قيود ومعايير مانعة ومراقبة لأشكال التمويل والتواصل بين مختلف المؤسّسات الدينية والجماعات والجهات السياسيّة، الأمر الذي يسمح بممارسة نشاطات سياسيّة ودعائيّة. لكن في السنوات الأخيرة بدأت هذه السياسة تتغيّر شيئاً فشيئاً، فأُقيمت حملات على مراكز مرتبطة بـ"حزب الله"، بعد أن صنّفته منظّمة إرهابيّة.
ومنذ عام 2021 تراجعت العلاقات دراماتيكيّاً بين الجهتين للمرّة الأولى، بعد ملاحقات وإقفال جمعيّات تابعة لـ"الحزب" في ألمانيا، ولأوّل مرّة صنّفت محكمة ألمانيّة عضوَين مشتبه فيهما في "حزب الله" اللبنانيّ على أنّهما إرهابيّان. وحكمت المحكمة الإقليميّة العليا الهانزية في 28 حزيران 2024 على رجلَين يبلغان من العمر 50 و56 عاماً بالسجن لمدّة 5 سنوات ونصف و3 سنوات.
كان على محكمة هامبورغ أن تقرّر للمرّة الأولى إذا كان من الممكن إدانة أعضاء "حزب الله" كإرهابيّين في هذا البلد.
وقالت القاضية التي ترأّست الجلسة في حكمها إنّه من وجهة نظر المحكمة، يعتبر "حزب الله" اللبنانيّ "منظّمة إرهابيّة بشكل واضح". وهم يروّجون لتدمير إسرائيل وتدعمهم إيران.
وبحسب المحكمة فإنّ المتّهمين من كوادر "حزب الله" منذ فترة. وبحسب الإعلام الألمانيّ إنّ الأصغر قام بتدريب الأطفال والشباب في لبنان على "روح حزب الله" قبل مجيئه إلى شمال ألمانيا في عام 2016 باعتباره ما يسمّى بالشيخ المتجوّل. وهنا كان همزة الوصل بين التنظيم الإرهابيّ والأندية اللبنانيّة. وقام بالوعظ، على سبيل المثال، في نادي بريمن الذي كان يقوده المتّهم الثاني، الذي نظّم هذا النادي لمصلحة "حزب الله". وكان لكلا المتّهمَين علاقات وثيقة مع المركز الإسلاميّ في هامبورغ، والذي، وفقًا لمكتب حماية الدستور تسيطر عليه إيران.
ولكنّ هذا الحكم يبدو أنّه لم يؤثّر على العلاقة بين الاستخبارات و"حزب الله" الذي قام بأكثر من زيارة إلى لبنان والتقى مسؤولين من "الحزب".
ويعتبر رئيس المخابرات الألمانيّة السابق أوغست هانينغ تعليقاً على التواصل الأخير أنّ هناك خلافاً سياسيّاً بين الحكومة الألمانيّة ونظيرتها الإسرائيليّة، مشيراً إلى أنّ على ألمانيا أن تلعب دوراً في التهدئة، وكاشفاً أنّ ألمانيا لم تقطع علاقتها بإيران رغم الضغوط التي واجهتها".
ويقول: "من الناحية الاستخباريّة نتحدّث مع كافّة المنظّمات حتّى لو كانت مصنّفة إرهابيّة، ونحن حافظنا على صلة ما مع "حزب الله" على الرغم من قطع العلاقات. والمخابرات الألمانيّة لا تخجل من هذا الأمر، من أجل كسب المعلومات والتدخّل. ونحن في ألمانيا وكلّ أوروبا لدينا مصلحة بألّا تندلع حرب شاملة في الشرق الأوسط".
وإذ يؤكّد أنّ مؤشّرات الحرب تكبر كثيراً بين إسرائيل و"حزب الله"، يشير إلى أنّ هذا الأمر دفع ألمانيا إلى التحرّك السريع في اتّجاه "الحزب" لتفادي هذه الحرب".